كتب واصدارات
وَعْيُ الحقيقة.. عرض لكتاب د. أكرم جلال
صدر حديثًا عن مؤسسة "إي -ك ُتُب" كتاب جديد بعنوان: "وَعْيُ الحقيقة" للأستاذ الدكتور أكرم جلال كريم.
يقع الكتاب فى 378 صفحة من القطع الوسط. وممّا جاءَ في مقدّمة الكتاب:
إنَّ "الحقيقةَ" مَفهومٌ قد استحوَذَ على اهتمامِ المفكّرينَ والباحثينَ على مرّ السنين، فَكانَ ولا زال مَوضعَ عِنَايَة العُلماء العاملين، من حُكماء وَعُرفاء ومُتَكلّمين، حيثُ دَأَبَ على شَرحِ مَضامينه وَفَكِّ رموزِهِ الكثير من المُحققينَ والمُفسّرين والفلاسفة والمُفكّرين، منذ سقراط، وأفلاطون، وأرسطو، إلى ديكارت، وكانط، والفارابي، وابن رشد، وابن سينا، وصدر المتألهين، والسيد الطباطبائي، والشيخ المُطهري، والشهيد الصدر، وآخرين.
" .. وَرُغمَ أنَّ الكثيرينَ يَرَون "الحقيقةَ" على أنَّها مفهوم شائك ومُعقَّد، إلا أنَّها دون شكّ مَوضع قبول الإدراكات العقليّة، وعناية الموروثات النقليّة؛ فالحقيقةُ ما بَرِحَت عنوان تَزخر به كتابات الباحثين والمفكرين لما تحمله مِن قِيَمٍ مَعرفية، وأَثَرات وجوديّة، ومعايير جوهريّة، تُعين على مَعرفة الخالق والمخلوقات، ومرتبة أخلاقية في بناء المجتمعات وَتَحصيل الاستقرار السياسي وتحقيق النَّماء والازدهار الاقتصادي، وقاعدة مَوضوعيّة نَفرقُ بها بينَ الحقّ والباطل، والخير والشرّ، والصَّحيح والمُزيَّف؛ إنَّها بوصلة الطالبين نحو التَّكامل، ودليل القاصدين نَحوَ مَراتب القُرب مِنَ الحقّ جَلَّ جَلاله.
وَلَئِن وَصَفَتها كُتبُ الألفاظ وَمَعاجمُ المعاني على أنَّها الشيء الثابت اليقينيّ، وارتبطت وتوافقت مع الجّوهر الواقعيّ، إلا أنَّها لَم تَسْلَم مِنَ التَّزييفَ والتَّحريفَ والتّشويه، الأمر الذي جَعَلَ من إدراك الحقيقة مسألة شاقَّة، ومهمَّة مُضْنِيَة؛ فَتَعَدّدت الطرق نحو فَهْمها، وَتَنَوَّعَت السُّبُل لاستيعابها، فالبعضُ كانَ يَطلبها من بابَ البراهين العقليّة والنصوص النقليّة، والبعض من بابِ العرفان الوجدانيّ، وآخرون عِبرَ المعرفة الذّوقية واللّدنيّة.
وَلَو تَمَعَنّا وتدبَّرنا جَليًّا بماهيّة الحقيقة لوجدنا أنَّها تفوق بمقيمتها الجوهريّة جميع المَعاني الظّاهريّة التي صوّرتها لنا بعض النظريّات الفكريّة والفلسفيّة، فالحقيقةُ أكبرُ مِن أنْ تُوضَعَ مُكبَّلةً في خانَةِ التَجريبيّة، أو الظرفيّة، أو الإقتصادية، أو السياسية، بل هي تفوق حتى النتاجات البحثيّة والتأملات الفلسفيّة. لقد أصبح هذا المفهوم الجوهريّ لعبةً تتقاذفه المنافع السياسية، والمصالح الاقتصادية، وساحةً لتصفية الصراعات الفكريّة والعقائديّة، الأمر الذي جَعَلَ من هذا المدلول السّامي مفرَّغٌ من معانيه الرّفيعة، ومجرّد من مؤدَّياته العميقة، نتيجة ما أصابه مِن تَزييفَ واخْتِلاق وافْتِراء، حتى باتَتِ الحَقائق المُشوَّهة أو المُصطَنعة مقصَدَ الغافلين، وغايَةَ التّائهين، ومطلَبَ الطّامعين.
إنَّ البَحثَ عَن الحقيقةِ لا يَعني الاستغراقَ في مَتاهات الفوضى المَعرفية أو الانشغال في فراغات العموميّات المُجرّدة، وإنّما مُقَارَعَة الباطل، ورفض التزوير والتحريف، والابتعاد عَن دائِرَةِ الظّنونِ والأوهام، والتدرّع بمرتكزات النَّفس، والإرادة الحُرَّة، والعقل، والمعرفة، والواقع. لذلك فإنَّ الكثيرين مِنَ الحُكَماء والمُتكلّمين يعتبرون أنَّ المحطّةَ الأولى في مَسيرةِ الإنسانِ نَحو وَعيِ الحَقيقة يكمن في فَهمِ ماهيَّتها أولًا، تلكَ التي تفرضُ علينا واجبَ الابتعاد عَن المحدوديّات المُصطَنَعة، والسطحيّات المانِعَة، الشبهات الخادعة، وأنْ نهجر ظلمة الشكّ نحو نور اليقين، من أجل الاقتراب مِن معرفةِ الحقيقة اليقينيّة، والتي تمثّلُ الأصلَ والمَنبَعَ لِجَميع الحقائق في عالَم الإمكان، فالحقيقةُ واليقين صنوان لا يفترقان.
والحقيقةُ هي خلاصة التطابق بين الإدراك العقلي وبين الأشياء الحقيقيّة في مظهرها وجوهرها الواقعي، وكما أنَّ العَقلَ الإنسانيّ مَوجودٌ ومَخلوق، وأنَّ كلَّ الموجودات هيَ في الواقع مخلوقات، فاللهُ تعالى قَد خَلَقَ كُلّ شيء بِقَدر ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾، فالأشياء بطبيعتها الخَّلقية، ما لَم تخضع للتزييف والتحريف، هي مُنتظمة ومتطابقة مع العقل السَّليم. فالأشياء في عالم الإمكان، والتي يدركها ويحكم عليها العقل، هي حقائق جزئية، لأنَّها مظاهر وتجلّيات لأسماء الله تعالى وصفاته.
وَرُغمَ أنَّ الواقِعَ يَفرض مَبدأ التَوَافُق والانسجام بين الموجودات وبين العقل الإنساني السّليم، وأنَّ فكرةَ الخالقيّة والعقل الإنساني لا يتعارضان، إلا أنَّ ظاهر الموجودات قد تخضع للتّحريف، وقد تتقبّلها بعض العقول على أنَّها حقائق وجوديّة، وهي في الواقع "غير حقيقية". فالنظامُ والإبداعُ في خَلقِ الموجودات تَفرضه ماهيّة الحقائق الكامن في جوهر تلك الأشياء، ويؤكّده ويحكم عليه العقل الإنساني حينما يكون الأخير قد بَلَغ مراتب التكامل، وأصبح مؤهّلًا لإبصار جوهر الأشياء الحقيقي، لا المظاهر الصوريّة. فَكُلّ المَوجودات قَد أوجدَها الخالق على أنَّها حَقائق في ظاهرها وجَوهَرِها ما لَم تَخضَع للتَّحريفِ والتَّزييفِ مِن قِبَلِ المَخلوق.
وهكذا، كلّما أزداد الإنسان جُرأةً في تحريف الحقائق كلّما أصابه التّيه والوحشة وأزداد بُعدًا عن الله تعالى، قال الله تعالى وهو يُخبر عن الشيطان وعزمه على تزييف الحقائق: ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا﴾[النساء: 119]. وفي المُقابل، كلّما ازداد الإنسان معرفةً ووعيًا وإدراكًا بالله تعالى من خلالِ مَعرفة أسمائِهِ وَصفاته، كلّما كانَ أكثَرَ وَعيًا بحقائق الموجودات، لأنَّها مظاهر وتجلّيات لتلك الأسماء والصفات، قال تعالى: ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ﴾[الأنعام: 122].
***
ونَحنُ في هذا الكتاب لَسْنا بِصَدَدِ الاكتفاء بمناقشة الاتجاهات الفلسفيّة لمفهوم الحقيقة، فَعَلى الرّغم مما تحويه من آراء فكريّة ومفاهيم قيّمة، إلا أنَّ الأبواب والفصول تستند كذلك إلى أسس عقائدية واطروحات كلاميّة ومدارس عرفانية، من أجل تقديم صورة واضحة لمفهوم الحقيقة، وتُفصّل في الوسائل التي تعين على بُلُوغِ وَعْيٍ مُتقدّم لحقائق الأشياء، وتميّز بينَ الحقيقة واللّاحقيقة، وبين المطلقة والنسبية، والثابتة والمتغيّرة، واليقينيّة والترجيحيّة، والذاتيّة والموضوعيّة.
إنَّ القرآن الكريم هو دليل السالكين نحو وعي الحقائق بيقين، لا بمقامه اللّفظي فقط بل باتّحاد جميع مقاماته ومراتبه: العَرشيّة، والمَلكوتيّة، والماديّة، والبيانيّة؛ وأنَّ الأسرار الحقيقية والمضامين النورانيّة لآيات الكتاب المُبين لا يَقدر على حَملها ولا يَعلم تفسيرها ولا تأويلها إلا مَن اختارهم الله تعالى ليكونوا عِدْل القرآن، أولئك الذين كانوا، ولا زالوا، وَسَيبقون مع القرآن لا يفترقون، وهُم النبيَّ المُصطفى والأئمة المَعصومين مِن ذُريّته (عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ)، فَهُم وحدهم مَن بَلَغوا مَقام حيازة عِلم الكتاب بأكمله، واختصَّهم اللهُ تعالى بالولاية التكوينية، وأَمَدَّهم بقدرة التصرّف بمفردات لوح الوجود. والإنسانُ وَبِحُكم سَيره نَحو التّكامل الروحيّ وبلوغ مقامات القرب الإلهي، أو ما يُطلق عليه بقوس الصعود، ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ [الإنشقاق: 6]، فهو وَمِن أجل إدراك الحقيقة عليه التمسّك بهذين الثَّقلين، كتاب الله تعالى والعترة المُطهَّرة.
والحقيقة الإلهية هي كالنّور، كاشِفٌ لنَفسِهِ ولِغَيره، أي أنَّه جَلَّ جلاله حقيقة تامَّة، وكاملة، ومطلقة، فهو مُظهرٌ لنفسه عبر أسمائه وصفاته، ودالٌّ على غيره، وأنَّ جميع حقائق الأشياء في جميع العوالم إنّما هي مظاهر وتجلّيات لحقيقة وجوده ونور كماله. فالله تعالى هوَ نورُ السمواتِ والأرض، وَهُوَ جلّ جلاله نُورُ ظُهور وفيض، يفيض مِن نُورِهِ على الموجودات في عالَمِ الإمكان؛ فَهُوَ النّورُ وَمِنهُ النُّور، وهو بذلك يكون الحقيقة التي تكشف عن جميع حقائق الممكنات في جميع العوالم. والله تعالى (الموجود الحقيقي، التّام والمطلق في كمال وجوده) الذي يفيض على مخلوقاتها من أنوار قدسه، مَثَلُ نُورِهِ كمصباح نَيِّر وَضَّاح في زجاجة الحقائق المُتعالية ينير به الحقائق السفليّة. فمن أنواره الصمديّة برَزَت الحقيقة المحمديّة، حيث تجَلَّت حقيقيةُ نُور الأحديّة وَرَفَعت حُجب كثرة الأسماء التى في مقام الواحدية، فأنكشفت حقائق الأشياء من حيث أنّها تجليات للأسماء والصفات. وأنّ هذا الإظهار للأشياء هو إظهارٌ مَعنوي لا حسّي، فالنورُ هو الكاشف عن حقائق وجواهر الأشياء، "يهدي الله لنوره من يشاء"، والمضيء لديجور الممكنات، والرافع للظلمات.
والكتاب مُقسَّم إلى أربعةِ أبواب، وكلّ باب مُهيكل إلى عدّة فصول، وبعض هذه الفصول لها مباحث متعددة. والباب الأول عنوانه: " الحَقيقةُ في أرْوِقَةِ المَدارِسِ الفَلسفيّة "، ويحتوي على سبعة فصول، وبعض هذه الفصول تتفرّع إلى عدَّة مباحث. وأمّا الباب الثاني فعنوانه " مفهوم الحقيقةُ في دَهاليز السياسة المُظلمة "، وهو الآخر مقسّم إلى فصول وعددها عشرة. والباب الثالث حَمَل عنوان: " الخطاب الديني وأثر الحقيقة في تعميق وَعي المُتلقّي "، وفيه ستة فصول، وبعض هذه الفصول مقسمة إلى مباحث. وأمّا الباب الرابع والأخير فقد حَمَل عنوان: " مَفهوم الحقيقةُ في الفكر الإسلامي "، وفيه ثمانية فصول، وبعض هذه الفصول مُصنّفة إلى مباحث.
ويخلص الكتاب إلى أنّ الإنسان لا يبلغ مرتبة وعي حقيقة الموجودات ما لم يطوي المراتب نحو وَعي حقيقة الواجد، وأنَّ الاقتراب من معرفة الواجد والتزوّد من فيوضات القُرب منه سينير الطريق ويعمّق الوعي، ويُخرج الطالب من اللاحقيقة إلى الحقيقة، ويكتشف حقائق الموجودات بجواهرها الحقيقيّة لا بمظاهرها الخارجية.
وأخيرًا فإنَّ الطالب لنيل مقامات القُرب مِنَ الحقيقة المطلقة، ومن أجل رفع جميع الحُجُب والموانع، عليه أولًا أن يَخرجَ مِن سجن الشهوات الحيوانيّة وحب الأنا الموحشة والظلمائية، ويتطهّر بماء العشق الإلهي، ويسحق الأنا في ذاته، تاركًا الدّار السفلى ومحلّقًا نحو المقامات العليا حيثُ القُرب مِنَ الحقيقة المُطلقة. إنَّ العبادة الحقّة والسّير الحَثيث، والتمسّك بالثَّقَلين، ستَكون كفيلة بجذبِ السّالك نَحوَ وعي الحقيقة، وَنَيل مقام القُرب من الوجود الحَقيقيّ اليقينيّ؛ مقامٌ لا يَرى فيه العبدُ إلا اللهَ وجودًا حقيقيًا، وأمّا حقائق باقي المَوجودات فهيَ مِنَ أنوارِ وجوده جَلَّ جلاله.
***
د. أكرم جلال كريم
29 / شوّال / 1444 هـ، الموافق 19 / مايو/ 2023 م.