بأقلامهم (حول منجزه)

سمر محفوض: "يتهادى حلما".. نافذة أمل معلن على الروح والآخر

تجربة غنية أدبيا متماسكة لغويا شفافة وتريق روحها في حضرة المتابع بدون إقحام أو فجاجة كل ذلك وماجد الغرباوي غير مهتم أو مستند على تجارب سواه من الشعراء مع احتفاظه بتلك العلاقة المثمرة مع الإبداع مشغولا بمشاعره الرقيقة، مكتفيا بعوالمه الداخلية..

 وببساطة يمكن لاي متلقي يمتلك حساسية حقيقية تجاه الأمل أن يميز بين ما يكتبه الأديب الغرباوي وبين ما ينتج على مستوى الوسط الأدبي حاليا، بحيث يحافظ على صلته بالأبداع الأدبي والشعري مصطفياً معاناته ومؤنسنا إياها إسقاطا على الشرطين الإنساني العام والشخصي الإبداعي..

وإذا كان المنطق والهم العام والشخصي مندمجين ضمن أي مستوى من المستويات لدى الأديب ماجد الغرباوي فإن ما يطرحه علينا في منجزه الأخير "يتهادى حلما" تم تقديمه بصدق وشفافية صافية بما تحتوي تلك الشفافية من ارتباكات زمانية ومكانية...  فهو ينقلنا مباشرة عبر كلماته إلى عمق أسراره:

(في مراياهم المقعرة

ذوت مصابيح الحانة

فتلعثم الحرف) ص٧٤

حاضرا وملمحا ومتمسكا بمشروعه حتى النهاية...وتتمثل النصية الأدبية لديه في التبسيط المعقد.. نعم هو ذلك التعبير الذي يحتفي بمكوناته وتناقضاته محتكما إلى تجلياته الروحية وقد جعل من الكتابة نافذته إلى الأشياء كما إلى ذاته والآخر.....

يكشف لنا الإمكانات كما تعبر عنها نصوصه (يتهادى حلما)..(همسات لاهثة)..(تسمر الضوء)..(تبتكرني الريح)..(شظايا)..(مديات الحلم)..(كلمة هي)..(عناقيد عشق)  على مدار ٨ نصوص نثرية هي حصة الشعر من المجموعة التي تحتوي  إلى جانب النصوص النثرية تسعة قصص قصيرة أشبه ما نكون بمنولوج حواري روحي داخلي  يكشف عن بواطن تجربة متوقدة ولافتة لها مالها وعليها ما عليها  من تكثيف وترميز وإسقاطات ..وسوف يتم تناول تلك التجربة في مقالة لاحقة قريبا وذلك بهدف الاحتفاء بالمنجز الأدبي ومنح الوقت الكافي لدراسة  هادئة تلم  بكلا الجنسين الأدبيين قصة ونثر،  ضمن المجموعة المعنونة باسم "يتهادى حلما" للكاتب ماجد الغرباوي والتي جاءت بـ ١١٦ صفحة من القطع المتوسط من إصدارات مؤسسة المثقف العربي -أستراليا، نشر وتوزيع شركة العارف للأعمال ش.م.م

إذا قدم لنا الغرباوي باكورة نصوصه بشكل مغاير عن مألوف النثر جامعا بين القصة القصيرة والنص النثري ونحن نركز هنا على مآلات النص النثري الذي قدمه لنا الغرباوي كيقظى دائمة. يسمي الأشياء بأسمائها فلا استعارات فائضة ولا ترميز يعيق الفهم بل وضوح يشبه بركة ماء في صخرة أو شعاع شمس صباحي.

من هنا كان الذكاء الإبداعي في غنائية اللغة المحتفية والمنغمسة في التعبيرية وهو في كل ذلك يعمل في الحيز الإيجابي للكتابة، ويؤكد على السؤال الملح.. ماهي وظيفة الإبداع.؟ وهل لدى الكتابة حدث مسبق يمكن وضعه نصب العينين قبل المشروع الكتابي أم هو فيض الروح ينداح على شكل ضوء واضح وحنون وشفاف معا..

(خاويا بين ضلوعي

يلفني التماهي

صمتا

مطبقا) ص 76

 يسمي الأشياء بأسمائها المجردة

(وذاك المراق بين لهاث الدروب

دمي) ص٧٧

فتراه كلما يستند على الاستعارة التي راجت في نصوص الكثيرين مؤخرا.. داعيا لرفض القوالب الثابتة ومتماهياً مع العمق الإبداعي الرافض للسائد وداعيا للتمرد المبني على المنطق والإلفة والجمال..

بين الوجود والموجود أو المتاح ينسج خيوط مخيلته من شعاع كوني يخضع وحده..

(اسبح باسمك

حين طلوع الشوق) ص٨٨

 نلاحظ في هذا المنجز محورين دائمي التصادي والتواري - الغياب المتورط بالتذكر والحنين النازف شعرا -على مدى الصفحات، يطل الأديب ماجد غرباوي من معاناته الشخصية مهجوسا ومسكونا بالغياب الذي يأخذ لدية صيغة التجدد..

(تستهويك الغواية

طائرا

يستدرجه البحر سرابا) ص٧٩

حوار الذات، حوار الزمن، حوار الغياب، حوار الحنين

(تستهويك الغواية .... طائراً)

وهو هنا يستخدم مفردة طائرا كناية عن تنقل وفوضى الحنين في سماوات غربته عواطفه.. كأنها مساحة مفتوحة على طيوف الرؤيا. بكل تبعاتها التي يعايشها الشاعر في علاقته مع المرأة الحبيبة التي تشف من حروفه ولا تتجسد تنبض بكل جملة وتتبدى، إنما مختلطة بالهم العام وممتزجة مع السراب الممتع، كل ذلك ضمن ترابط إيقاعي هرموني متماسك دافعه المعنى وأدواته المخيلة التي تشتبك مع الضوء لتنتج سطوعها.. (أي ذهول ينتاب شجر الغواية) ص٧٢

التعبير بلغة الإيحاء له مقاماته التي تقارب أو تحاكي مقامات التعبير عبر الصوت. ولكنها بالضرورة تتمايز عنها أحيانا أو تتفوق عليها بالشكل المتخيل لما تقتضيه من حذق وشدة وتركيز في فهم واستنباط المعنى الكامن خلف الإيحاء

(توغل.. توغل

فلذيذ الطعنات

آلامها) ص٨١

 النص يستلزم المتابعة المركزة على المتن أو الحامل الشعري/اللغوي وهو هنا ... (الإمكان في تعميق الجرح)

وفي تلاحق الاستثمار الرشيق للغة قال.. (توغل.. توغل)

 (فلذيذ الطعنات) آلامها أو أوجاعها هي كذلك صرخة صاخبة لكنها للداخل مترادفة مع الصمت لعدم مطاوعة آليات الكلام مع التعبير عن الجرح، لان اللغة قاصرة غالبا حين يتعلق الموضوع بالمشاعر.. من الشغف إلى التوق والهم العام ولا مفر حينئذ من الإشارة أو الإيحاء الصامت لنكمل عبره ما يختلج بالروح...

(تعالي نفجر الصخر

أشرعة ماء

تحتضن آهاتنا

وتطرز الأرض زنابق بيضاء) ص٨١

من قساوة الصخر ينداح الماء طريا شفافا ويروي الروح فتزهر وتزهو الحياة

(تحتضن آهاتنا

وتطرز الأرض زنابق بيضاء)

والصمت في حضرة الروح جمال وإضافة وتشكيل تالي للمشهد .. كذلك يحاول شاعرنا ماجد الغرباوي تبرير صمته بعجز اللغة عن إيصال ما يعتمل بروحه من شتى الأحاسيس.

من المؤكد أن النظرية النقدية المعاصرة لم تعد تقتصر في دراسة النص الأدبي على الارسطية أو النيو كلاسيكية أو البنيوية والكلاسيكية التقليدية.  بل شكلت مسارات موازية للنص الإبداعي الذي قام بمغامرته متمردا على المفاهيم النقدية والتي لم تعد قادرة على مواكبة الأساليب الحديثة التي يطرحها النص، تلك التي فرضتها تطورات الأسلوبية والرؤية المعاصرة لما بعد الواقع العياني.. كما أشار إدوارد سعيد أحد اهم النقاد الاستشرافيين المجددين الذين أتاحوا النص الأدبي للتصورات المنهجية المتناقضة أحيانا.

 استفاد الغرباوي من ذلك دون أن يتقصد أو يعول على أي نظرية بل فضل أن يقدم النص الإبداعي محاذيا ومشرفا على الغرائبي والمألوف دون الانحياز أو الغرق في كلاهما، خارجا من المدارس والاتجاهات التقليدية بما فيها المنهج الاجتماعي أو التكويني البنيوي أو حتى الأسطوري الميثولوجي،

(مذهولا استرد أنفاسا

تراود كلكامش في حلمه

فيغمرني الحنين

ينساب بين أصابعي

وتنسل راية

تصارع المدى).

منحازا للعادي الحياتي مع استخدامه البصيرة المشحونة والميل أحيانا للغرائبي الميثولوجي التاريخي / تراود كلكامش في حلمه/ كأنما توحد بلحظة تركيز تأملي مع جذره التاريخي، مما منحه التعامل مع النص ليس وفق مفهوم مكرس.. بل بصفة إجرائية مجربة وهذا ما يعمل عليه غالبية المبدعين الحقيقين اليوم. وصولا إلى التصالح مع الذات والكون.. (. فيغمرني الحنين)

نستطيع أن نتلمس السبل المنهجية لقصيدة الغرباوي وأساليب الكتابة لديه، من مقدمات ومتون تلامح خارج المألوف من القول (لم يكن سفاحا ذلك الضوء

أنها طقوس مخالب الشمس

كادت تعاقر صبابة كأس) ص٧٠

دون السقوط بالعادي بل يمتلك شرطه الواقعي ويرمم الطرق القديمة غارسا على جنباتها ابتكارات ما يحتاجه النص من المعرفة...

(آلهة المعابد الرخامية

تركوا الباب مواربا) ص٧٣

وقد اغنى أساليب التعامل مع الفكرة والجملة والشاعرية الكامنة داخل وعيه يمحوها ويعيد صياغتها بشكل مغاير لما تتبعنا سابقا من إنتاجه الأدبي وصولا لتركيب شعري سلس ومستساغ....

(ضاحكة عيون المها

تلامس شظايا قلب

يسهو في محرابه) ص٨٨

كل ذلك وهو واثق من موهبته في الدائرة المحاذية للنص وضمن المساحة الخطرة من الإبداع. بتحولاتها الممكنة ما بين النص الأدبي والنثري بفعل السرد وقد اغتنت الذائقة بأحمال العواطف في تلك المنطقة الحذرة مرة أخرى ما بين الغرائبي والواقعي

 (أتحاشى نظراتك المتعبة

تنزلق بي إلى هاوية الذكريات

إلى وطن مزقته حراب

بائسة) ص٨٥

 تمازج لديه الحزن والحب والهم الوطني الذي جعل حزن الحبيبة موازيا لأوجاع البلاد التي جاء منها حاملا إياها في قلبه. ونبضه وهي لفتة تحسب للأديب الغرباوي حيث يأخذنا للتأمل المتأصل بعيدا عن النظريات.. ليقدم نصا متماسكا بكل مفرداته دون أن تهيمن الخلاصة على المحتوى بل يتم كل ذلك بانسيابية عذبة تشبه نهرا يتهدى في الريف الغني بخصوبة تنوعه...

(فتسمر الضوء

 يعانق أوهام الحقيقة

ونبوءة المرمى الأخير

تمزق أكفانه) ص٧٤

 يعمل على الزمن كجزء لا يتفصل عن بنية النص مفسحا له أن يغير موقعه داخل إطار آلية التلقي ويبدل أساليب البداهة الجوهرية..

(راح يتلو سورة الماء

وشيئا من آيات الحطام

يستعيد بقايا موبقات

وثرثرات) ص٧٣

 والتي يمكن رصدها في الخصوصية ومقاربته بين شكلين يخضعان للاشتراطات المتعارف عليها.  (تلاوة سورة الماء) في إشارة للمقدس والماء الذي منه كل شيء حي و(شيئا من آيات الحطام) في إحالة للخراب والدمار والتهميش الذي يحكم عالمنا المعاصر في الكثير من جنباته. مسكونا بهاجس الإجابة عن أسئلة الواقع عبر ضبط التحولات الشرطية داخل النص.. دون تعارض بين الذات والعوالم المحيطة تحكمه المعرفة والإحالات النفسية والشعورية العميقة..

(شاهقا كان المدى

يتوسد ناصية السماء

غارقا في هذيانه

يتصفح جرحا

تقرحت زفراته العاتية) ص ٧٢

تكمن فرادته في محاولته البناء البسيط غير المركب أو المعقد دون الغرق بمتون  اللغة أو مفاهيم التهجين اللغوي والأسلبة والتحليل والاختلاف..

(سرابا ارتدى

حلم المتاهات القصية

) ص ٧٢

 لا يستنسخ تجارب سواه بل يبني على عواطفه ومشاعره، غايات منتجه الكتابي مع الفهم العميق لأدوات الحقول المعرفية. والقدرة على استيعاب العناصر الشكلية المتحكمة في النص. وصولا إلى السؤال الأعمق تشكيكا..

(أي ذهول ينتاب شجرة

الغواية ...؟) ص٧٢

: حسب رو لان بارت "أن على النص أن يكون متصلا بالدهشة، وهذا يعني تواصل المتعة الإبداعية دون انقطاع وهو بذلك يدخل ضمن النسق الاجتماعي للذائقة الجمالية.. فالدهشة لا نغادر النص من حيث انه مولد جمالي.

لكن أيضا حسب بارت "نظرية النص يمكن أن تقترن فقط بممارسة ما للكتابة "

وهنا يشير بارت أن الكتابة شكل من أشكال تدمير البناء اللغوي لانها تقول بتحويل النص إلى مجموعة رموز تبحث عن أصولها في مخيلة المتلقي، وفي هذه الحالة يمكن للنص أن ينفتح على تشكيلات جديدة من التعبير. عبر توزيع اللغة مما يعني خلق أنماط جديدة من التعبير واخص هنا التعبير النثري والذي جعل من فكرة الإبداع قابلة للتطبيق لتصبح تعبيرا دالا بدلا من كونها أداة للتذوق الشعري وإدراك سحره والمفكك لفكرة الإبداع ذاته..

(حطام دمك.. يروي بيادق اللعبة الفينيقية

باي مرفأ سترسي موناليزا تمثالك الخشبي...؟) ص٧٨

هنا المفردة.. (سترسي.. ومرفأ) بتجلياته الافتتاحية. والمكونة للمنحى التعبيري الحر، العودة للجذر، والوصول لقلب المعنى، حيث التخفيف من القواعد الصارمة والصيغ الجامدة / المرفأ/ وهو الذي يستقبل كل جديد وصولا إلى التركيب الإيحائي / موناليزا تمثالك الخشبي/ والذي أكتنز التقنية عبر تماثله لشتى الاتجاهات، تاريخية وفنية وجمالية.

تاركا لنا حرية استنباط الإيحاء ضمن فضاء غير محدد من حيث التواتر الذي يدخل مرحلة الكشف، حيث لا عتمة ولا تناقض مع مناخات الكتابة بل تصالح عميق مع الروح والحب الفقد وسواه. (حطام دمك.. يروي بيادق اللعبة)

متطلعا إلى ارتياد حقول معرفية جديدة وموضوعات تالية لا تعتمد على المعتاد بل تحمل شخصية عفوية بسيطة مغلفة بشفافية الضبابي لابد لها من أن تتغلغل بنسيج الفكرة من اجل التقاط صيغتها التجريبية..

(حنين جناحيك

يشاغل

أوتار الغواية) ص٧٩

يطرح علينا أسئلة محرضة..

(سدنة المحافل الباذخة

بطونهم خاوية

ألا من زفرات جروح

وقليل من بقايا موبقات)

نعم انه عالم ملتبس يتشكل ربما ...ولطالما كان الشعراء سباقين للكشف والرؤيا وصيرورتها التي لا تقف عند حد..

بشكل وعي وتبصر وتحقيق للكامن في التجربة لا يتوقف عند الرصد الأولي بل ينفذ إلى الباطن الخفي المتوقد

(نتبادل نهب أوجاع

أيقظتها طبول فارغة). ص٨٥

 يقدم لنا كشفا مرحليا عن الحاضر وتعقيداته نتيجة لعملية تراكمية لتحولات النضج الإبداعي مع الارتكاز على الحقيقة المتخيلة والموضوع المراد التعبير عنه، وسكبها بالنص حيث عمل على استثمار مصادر التعبير والإدراك محولا الفعل الاجتماعي.. حب قهر وصال غياب... الخ، إلى عمل فني مبدع له معنى واضح وعفوي وثائر وعلى مزاج الطمأنينة التي هي الوجه الأخر للقلق والتناقض، في نفحة تجريبية غنية وهو يمتلك نمطا كتابيا خاصا يجمع الحسي والتأملي باحتفالية خاصة ملخصا رؤيته الكتابية عبر التأمل ما بين الذات والعالم

 (أتقلب بين حنايا أمواج عاتية

مفجوعا

اتهجى

صفحات المرارة) ص ٨٤

يعمل على إتقان مفرداته داخل اللغة بعفوية وفطرة الإبداع هي المسافة الفاصلة بين الحياة بتفاصيلها المعقدة والإمام بأبعادها الملحة، يكتب نصه بخصوصية من امتلك أدواته وصوته الخاص في إطلاق مميزة من الأني إلى الكلي الأزلي يحاول أن يرينا النص من منظور المتذوق العميق ليبقى ممسكا بالاحتمالات المشرفة على الألق والتوازنات، المنضبطة فهو لم يتعامل مع الكتابة على أساس أنها إقحام بل شعرية معلنة عابرة للوقت وصافية ونقيه التفاعل والإبداع.

***

 سمر محفوض – سورية