بأقلامهم (حول منجزه)
محمد سيف: الانقلاب الديني.. إلى أين؟

"إخفاقات الوعي الديني" للمفكر ماجد الغرباوي نموذجا
ما فتئت المراجعات الدينية تروم طرح مقاربة تلو الأخرى لتتساوق وما يستسيغه عقل اليوم وفهم اليوم وإنسان اليوم، ولكلٍ من هاته المحاولات إطارها المحدد ومنطلقها الذي تراهن عليه، وخلال العقود الأخيرة لا يمكننا ونحن نتناول هذا السياق إغفال إسهامات المفكر العراقي ماجد الغرباوي، وأن يكتب في مثل هذه القامة السامقة امرؤ مثلي، ولكني أكتب شهادتي للتاريخ، وأنْ يزجّ الإنسان بنفسه في ذكر هؤلاء لهو شرفٌ منيف بحد ذاته، فنتاج الغرباوي يربو على الثلاثين في هذا الحقل، ناهيك عن مجموعة طويل الذيل من المقالات، ومن أبرز وآخر ما كتب حتى الآن في هذا الجانب سلسلة متاهات الحقيقة.
وفيما يقدُم من السطور أحاول تسليط الضوء على كتاب "إخفاقات الوعي الديني" وهو في أصله مادة حوارية في تداعيات النكوص الحضاري، حاوره الأستاذ سلام البهية السماوي، وملحق به عشرات التعليقات ذات الصلة من القراء.
عودا على بدء، يؤكد الغرباوي على أنّ واحدة من أبرز الفروقات بين الحضارتين الغربية والإسلامية هي أن الشرقي يرفض المختلف بما فيه الآخر الداخلي - كما يسميه الغرباوي - ويعني به المختلف مذهبيا، وأن الاعتراف بالآخر لا يعدو أن يكون شعارات جوفاء، كما أن الشرقي يعاني من الكبت، وهذا على خلاف الغربي الذي يرى في الآخر - إلى حد ما - شريكا في الحقيقة، ويفصح عن آرائه بكل أريحية، وكأني بالغرباوي يلفت نظرنا إلى أن الشرق يعاني الأمرّين في أزمته الثنائية المتراكمة، قمع يخنق الذات، وإقصاءٌ يستبعد به الآخر المختلف من معادلة الحياة؛ ومن هنا يرى الغرباوي أن الحضارة الإسلامية لا تنهض نِدًا؛ لغياب التكافؤ في المكوّنات المعرفية بين الحضارتين، مقترحا إيجاد نموذج حضاري يُظهر الهوية الشرقية بدرجة تنافسية، شريطة أن يكون شموليا وإلا غدا نموذجا يشوبه النقص، لا تقوم له قائمة حتى ينهار، الجدير بالذكر أن الغرباوي يعرّف الحضارة بأنها "منجز بشري شيّدته تفاعلات فكرية - مادية".
وفيما يتصل بانفتاح المسلمين على الحضارات الأخرى، يرى الغرباوي أنّ ذلك تم عبر قناتين: الترجمة وما يُسمى بالفتوحات الإسلامية السلمية منها والحربية، والتي يصرّح الغرباوي في كتبه بتحفظه البالغ عليها، وأنه يمتنع الجهاد بعد تمام الرسالة إلا على سبيل الدفاع عن النفس، منكرا أيَّما إنكار على الدماء الكثيرة التي أُهدرت في ظل تلك الفتوح وبين صفوف المسلمين فيما بينهم من المختلفين، ففي الأولى يدعو الغرباوي إلى الاستفادة من المنجز الغربي تماما كما حدث في ظل الدولة العباسية حينما ترجمت آثار اليونان والفرس والهنود، وفي الثانية يسترعي الانتباه إلى ما قامت به الترسبات الحضارية في الشعوب المختلفة من التفاعل مع الحمولة الإسلامية.
مشيدا بالتجربة الماليزية التي وجدت لنفسها موضعا في مصافّ الدول المتقدمة، يهيب الغرباوي بضرورة النهل من المنجز الغربي في المجال المعرفي والتكنولوجي؛ حتى لا يكون الشرقي على هامش الحضارات، في حالٍ أطلق عليه الغرباوي "نكبة حضارية" وتارة "عصر السبات والتخلّف" حيث تزخر بلداننا بثروات طائلة إلا أنها مع ذلك مُدرجة في قائمة الدول المتخلّفة، ويضع الغرباوي يده على الجرح حول سؤال النهضة: "لماذا تقدم الغرب وتخلّف المسلمون؟" وأنه منذئذٍ وما زالت النهضة مفقودة، ورغم أن الحضارة الغربية بنت حضارتها على أمجاد المسلمين في الأندلس، إلا أنّ الغرباوي يطرح سؤالا محوريا يعرّي الحقيقة كما هي بما فحواه: وما نفع هذا التفاخر والحال أن الغرب في الوقت الراهن يقود دفّة التقدّم؟!
وعلى صعيد الدرس الفلسفي، للغرباوي نظرة مؤدّاها أنّه رغم أن الفلسفة هي من مدخلات الحضارة اليونانية إلا أنه كان لدى المسلمين أرضية من التهيؤ للتعاطي مع الفلسفة اليونانية، وتاليا كان للمسلمين فلسفة ذات خصيصة إسلامية؛ ومن هُنا فالغرباوي لا يتفق مع القول القائل بأن الفلسفة الإسلامية ما هي إلا نسخة طبق الأصل للفلسفة اليونانية، ومع ذلك لا ينكر تأثير الفلسفة اليونانية كتأثّر الفقه الإسلامي بالفكر الأرسطي، واللاهوت بالأطروحات الفلسفية من حيث يشعر المسلمون ومن حيث لا يشعرون.
ولا يخفي الغرباوي تفاؤله في احتمالية اللقاء الحواري بين الغرب والشرق شريطة أن يطوّق المسلمون الحركات التكفيرية، لكنه في الوقت نفسه يعترف بأن الاتجاه السائد لدى الشعوب الغربية يتبنّى النظرة الدونية للشرقي، كما أن ثقافة الشرقي طاردة بالنسبة للآخر - بحدّ وصف الغرباوي - ففتاوى نجاسة الآخر لكفره ما زالت قيد العمل.
يلمس الغرباوي وترا حساسا في المسكوت عنه في التاريخ الإسلامي، من حيث حضور جذور الدم التي تستند إليها الحركات الإسلامية المتطرفة لتبرير ممارساتها، منكرا على فقهاء السلطة الذين حولوا الصراعات السياسية إلى صراعات دينية دامية، ومعلنا بكل صراحة أن حروب الردة علاوة على أنها كانت خطأ محضا، فقد كانت محل خلاف بين كبار الصحابة أنفسهم، وكانت - في تقدير الغرباوي - تأسيسا للعنف الذي تُرفع رايته باسم الدين، عند الأمويين والعباسيين ومن جاء بعدهم.
ويرجع الغرباوي تمزّق الصف الإسلامي لسببين رئيسين: أولهما ما حدث من تنازع على السلطة بعد وفاة النبي في ظل فراغ المرجعية التي تحدد شكل السلطة، وثانيهما أن منظومة القيم القرآنية قد تأثرت بالصراعات السياسية من جانب، والتأويلية من جانب آخر؛ الأمر الذي أرسى دعائم قمع المعارضة تحت راية الدين، كما يضيف الغرباوي أسبابا أخرى كالاستبداد السياسي والديني والعشائري وانعدام الوعي والاستعمار وعدم الاعتراف بالآخر والتقديس والتقليد وقمع المرأة.
وإذْ يؤكّد الغرباوي أنّ "فرص التقدم ما زالت تواجه تحديات معقدة" يستعرض ثلاثة اتجاهات في تشخيص الأزمة الإسلامية وطرائق حَلْحَلَتها: الاتجاه الأول انغمس في حالة الذهول بالحضارة الغربية حَدّ احتقار الذات، وهو في تصوّر الغرباوي "خيار مرفوض"، وعلى النقيض منه تبنّى الاتجاه الثاني الانكفاء على الذات، وتصدّر العنف أبرز سِماته عن طريق خطاب "بات عبئا ثقيلا يتناسل بسرعة فائقة" وقياس " الحاضر على الغائب رغم اختلاف تفصيلاته"، أما الاتجاه الثالث فقد أطلق على متبنّيه بـروّاد الإصلاح.
ويُجمل الغرباوي القول بأنّ حجر الرحى في إشكالية اليوم مرتبطة بالنظام المعرفي لشعوبنا؛ كونها الأرضية التي ترتكز عليها أية حركة نهضوية، ومشدّدا النكير على أن ذلك مشروط بتجفيف منابع التيارات التكفيرية، ومؤكدا على أنّ "اليقين السلبي الذي تتصف به الحركات يعد تحديا خطيرا للنهوض الحضاري" ويعني الغرباوي باليقين السلبي المعوقات الحضارية المتولّدة من القناعات الراسخة، وأخطرها - كما يراه الغرباوي - قناعة امتلاك الحقيقة المطلقة، والتي كان من أكبر أسبابها تقديس سيرة الماضين، وهنا تحديدا يشير إلى ضرورة التفريق بين النص والتراث، ولذلك يدعو إلى "الانفتاح على النص الديني بقراءة نقدية" وهو بذلك ينقل الرؤية التجديدية من الاحتياج الكمالي إلى الضرورة التي تحتّمها حركة الطبيعة، وأنه رغم محاولات الخط الديني التقليدي من محاربة ما تنادي به الحركات التجديدية، إلا أن صوت الإصلاح ما زال يصدح، معرّفا إياه - أي التجديد - بأنه "تحديث أدوات التفكير من خلال توظيف المناهج والنظريات الحديثة" ويرتئي أن البداية يجب أن تكون تحوّلا ثقافية يحرر شعوب المنطقة من الالتفات للخلف الذي يقيّده عن الوعي الحقيقي بالحياة.
***
بقلم: محمـــد سيـــف
....................
* كتاب: إخفاقات الوعي الديني.. حوار في تداعيات النكوص الحضاري، حوار سلام البهية السماوي مع ماجد الغرباوي، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا، ودار العارف، بيروت - لبنان، 1916م