بأقلامهم (حول منجزه)
علي فضيل العربي: ماجد الغرباوي رائد الفكر التنويري
قد لا تسعفني الكلمات، وأنا أكتب عن قامة سامقة من قامات الفكر العربي المعاصر، فمعذرة إن قصّرت. وليعذرني شاعرنا العربي، ابن العراق الأشّم، محمد مهدي الجواهري، لأقتبس منه بيته القائل فيه: يا سيّدي اسعف فمي ليقولا ** في عيد مولدك الجميل جميلا. أمّا أنا فأقول لماجد الغرباوي: يا سيّدي اسعف قلمي لأكتب عنك في عيد مولدك السبعين هذه الكلمات المرصّعة بجميل التقدير ليراعك الفيّاض بمعاني التسامح الإنساني وجهودك المضنيّة التي ملأت روحك و شغلت جلّ عمرك المنصرم.
إنّ حياة المفكّر الحر حياتان: حياة الجسد الفاني وحياة الفكر الخالد، إنّها لا تُقاس بعدد السنين، ولا تنقضي بفواتها. وما العمر البيولوجي في حياة المفكّرين الأحرار سوى محطّة انطلاق نحو عالم الخلود.
ماجد العرباوي، مفكّر مثقف وباحث وشاعر وقاص، امتطى موجة التجديد والعصرنة في حقلي الثقافة والدين. رجل العقل النيّر الذي يمقت - من خلال مواقفه الفكريّة وفلسفة كتاباته الثقافيّة وإبداعاته الأدبيّة - التعصّب الفكري والديني، ويروم حريّة الفكر، والفكر الحرّ والتنويري، البعيد كلّ البعد عن التزمّت الهادم للذة التطوّر، والفكر الاتّباعي المضلّل للأبصار والبصائر، والمحرّف للحقائق الناصعة.
وأنا اقرأ له بكلّ شغف نصوصه الأدبيّة، من بوابة صحيفة المثقف الغراء، اكتشفت مفكّرا ملتزما وأديبا رهيف الإحساس، يخوض في عوالم القصّة الملتزمة والقصيدة الحيّة، بلغة تفيض بالمشاعر الإنسانيّة النبيلة والنابضة بالحبّ والسلام، الرافضة للظلم والاستسلام والغدر من لدن أبناء العمومة، يوم تكالب الأعراب والعجم من كل حدب وصوب على العراق الحبيب، فأثخنوا جسده وروحه جراحا غائرة لا تُنسى و تُغتفر. وهذا ما جسّده في نصّه الشعري (يتهادى حلما)، حيث يقول:
حزنا سرمديا
جاد به تموز
فما عاد لنا فرح
والموت ينشر راياته السود
فوق سحابات بلد خانت به
نفوس أدمنت الغدر.
و في نصوصه القصصيّة لوحات فنيّة حيّة، نابضة بألوان من التجارب الإنسانيّة، معبّرة عن معاناة الطبقة المسلوبة الحقوق، المحاصرة بين فكيّ الاستبداد السياسي والديني والتقاليد الميّتة والمميتة معا. ففي قصة " أمنيات متلاشيّة " رسم لنا القاص ماجد الغرباوي حقيقة المجتمع السادي. المجتمع المحكوم بحزمة من العادات والتقاليد الباليّة، أشدّ تأثيرا من الدين وأقوى من قوانين الطبيعة الفكريّة. فقد عجزت منال عن البوح بحبّها خوفا من العقاب الأسري والاجتماعي، في مجتمع لا يعترف بالحبّ، ولو كان حبّا عذريّا. إنّه مجتمع القبيلة والعشيرة، مازال يحرّم الحبّ ويعتبره جريمة وفضيحة أخلاقيّة، عقابها الوأد أو الذبح من الوريد إلى الوريد، بينا لا يعبأ بالكراهيّة. (أرادت أن تصرخ، كتمت صرختها، كلّمت نفسها، منال ماذا تفعلين، إنّها الفضيجة، ماذا سيقول مازن). إنّ بطلة القصة منال ذهبت ضحيّة مجتمع ذكوريّ تحكم دواليبه ترّهات الجهل والخرافة.
وفي قصّة " كذبة متوهجة "، يكتشف رعد حقيقة الزعامة الثوريّة المزيّفة من خلال شخصيّة نوري جواد. وقد استطاع القاص ماجد الغرباوي أن يضع اصبعه على الجرح، ويفضح أولئك الذين امتطوا موجة الزعامة، وادّعوا قصب السبق في قيادة الأمّة. أولئك الذين خدّعوا وخانوا وزجّوا بالشباب المغَرَر بهم في أتون معارك خاسرة، بينا تواروا هم وراء الجدران في انتظار لحظات الحسم، ليخرجوا من جديد، من جحور الجبن والخيانة و يسرقوا النصر وينتحلوا الزعامة. لقد أصيبت الأمّة العربيّة والإسلاميّة في مقتل، بعد ظهور الفرق الدينيّة والمذهبيّة والجماعات الدينيّة المسلّحة متّخذة من التعصّب ومظاهر الإرهاب والكراهيّة وسيلة للتغيير المزعوم، فنتج عن ذلك السلوك الخراب والدمار في الشام واليمن وليبيا، ثم تلاه بدعة التطبيع مع الصهاينة مقابل السلام المزعوم.
ما يلفت النظر – حقا – في كتاباب أستاذنا ماجد الغرباوي، هو الشجاعة الأدبيّة، والمواقف الفكريّة الثابتة على درب القناعة الذاتيّة. فهو لا يهادن في موضع قول الحقيقة، ولا يصمت في موضع الكلام، ولا يخشى المواجهة. فنصوصه الأدبيّة ؛ نثريّة كانت أم شعريّة، تنم عن سعيه الدائم إلى تنوير العقل العربي وتغيير بوصلته المنحرفة، وعزمه على تطهيره من الترّهات التي عَلقت به منذ أفول العصر الذهبي بسقوط بغداد 656 هـ وعصر ما بعد الموحّدين بسقوط غرناطة.
و في قصته "قرار ارتجالي" رصد لنا القاص ماجد الغرباوي، حالة المجتمع العربي المعاق عقليّا ونفسيّا، في عصر سيادة تكنولوجيا العلم والعولمة والرقمنة. وكم هو في حاجة إلى التغيير المعنوي قبل التغيير المادي. إنّ التخلّص من الجهل والتخلّف يتحققان بتغيير العواطف لا المعاطف، والعقول لا الحقول، والنفوس لا الفؤوس، والمراتب لا المراكب. أما في قصته " اللاعب المخادع "، فإنّ العلاقة بين المعلّم الذي تحوّل فجأة إلى لغز ولاعب سيرك، وتلميذه عليّ، تلخّص لنا ظاهرة النفاق الاجتماعي والابتزاز السياسي والسلوك الميكيافيلي في مجتمعنا العربي. ففي القصة تعبير عميق عن ضياع القيّم أمام سطوة المادة وغلبة المصالح الضيّقة على المباديء والأخلاق. وعندما انقلب المعلم على (مبدئيته واستقامته) رأسا على عقب، (حتى عمد مرّة إلى إبراز عورته، وأحدث ضجّة كبيرة داخل السرك، وعلا التصفيق والصياح، فصعق علي، ووقعت آلته الموسيقيّة من يده)، اضطرّ علي إلى تذكيره بقيّمه ومبادئه التي تربّى عليها. ردّ عليه المعلّم: (أنت لا تفهم شيئا)،(للأسف إنّك لا تعرف شيئا من أبجديات العمل)، (يا ولدي، السرك كالسياسة، يعتمد على الخداع، والتشويش على أفكار الناس، وسرقة إعجابهم، واستغلال مشاعرهم).
وعندما سأل علي ببراءة: (وماذا عن القيّم الإنسانية، وماذا عن الأخلاق؟ أجاب المعلّم مخاطبا تلميذه علي: (ستعلّمك التجارب أنّ هناك مصالح تعلو على المباديء والأخلاق، فلا تكن ساذجا، وإن ما نجنيه من ريع عملنا سنخدم به شريحة واسعة من البؤساء والمعدومين). لقد نفذ القاص ماجد الغرباوي، في هذه القصّة، إلى تلافيف العقل العربي المعاصر، وإلى الأزمة الحقيقيّة التي أصابت المجتمع العربي، وخاصة شريحة المثقفين منه. إنها أزمة قيّم ومباديء أخلاقيّة لا أزمة ماديّة. فإنّ ما أرضة النفاق مازالت تنوش صحيفة قيّمنا التي تعارف عليها أفراد المجتمع. وهذا عائد – دون أدنى شك وريب - إلى ضعف العقل العلمي واليقين الإيماني وغياب الوازع الديني الوسطي. وفي قصة (وانشقّ القمر) لوحة أخرى من ألبوم المجتمع الشرقي الذي مازال يعيش بنصف عقل ونصف جسد ونصف قلب، وما أكثر الأنصاف في مجتمع ذكوريّ. المرأة نصف الرجل، والمواطن نصف الحاكم، والحياة نصفها موت قبل الموت. (لم تمهله السماء طويلا، فصعقت ثانية، إلاّ أنّها أحرقت نصفه الأيسر)، (ماذا يفعل؟ تساءل وهو في الرمق الأخير من الحياة.)، (كيف يعيش بنصف جسد لو قدّر له أن يعيش؟)، (وماذا عن أحلامه مع ميامي؟). وهذا أنّه فقد قلبه، والقلب موطن الحب. كيف سيعيش بلا حبّ، بلا امرأة يبادلها همسات الحب؟ هل تحلو الحياة بلا حب؟ أم أنّ الحب في المجتمع الشرقي حالة فضلى؟ أو فرض كفاية؟. أليست المرأة هي سرّ سعادة الرجل؟ وهي طوق)!نجاته من اليأس والضياع والسأم والموت والانقراض أيضا. (انتبه.. هذا.. سرّ نجاتك
وفي قّصة " ذهول " رأى الراوي - بصيغة الأنا - (مذهولا يسابق الناس)، فأتبعه خطوة خطوة (وجدت نفسي مشدودا إليه). وفي خضم الليل استغرق تتبعه له، وهو ينتظر بشوق بزوغ الفجر (وصار الفجر أمنيّة تراودني). هي حالة أمّة غارقة في متاهات الظلام. ظلام الجهل والتخلّف والسراب، في انتظار من ينتشلها من محنتها. إنّ ما يخيف حقّا ويوجع القلب، هذا الفكر الرجعي الذي وضع عصيّه في دواليب العربة. ودوران الرحى بلا طحين. على أمتنا أن تواجه الخطر القادم من بين جوانحها، وهو خطر داهم تقوده عقول متطرّفة وتنفّذه دون هوادة.
وأخيرا، وليس آخرا، فإن تناول منجزات الأستاذ والمفكّر والأديب ماجد الغرباوي، لا يمكن استيفاءها في عجالة وفي مناسبة معيّنة. فكاتبنا يستقّ منّا كقرّاء أو نقّاد إلى إضاءات نقديّة، تبرز – حقّا- مكانته وموقعه على الخريطة الفكريّة العربيّة المعاصرة، تبيّن دوره في معركة التجديد والتنوير ونشر ثقافة التسامح والفكر النهضوي، الوسطي والإنساني. إنّ ماجد الغرباوي أنموذج المفكّر الوسطي، المدافع عن الحريّة الإيجابيّة، لا الحريّة السلبيّة التي تفضي إلى الفوضى، الواقف بالمرصاد بفكره النيّر لأعداء الإنسانيّة
***
بقلم: علي فضيل العربي - روائي وناقد / الجزائر
..............................
* مشاركة (9) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).
رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي
https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10