بأقلامهم (حول منجزه)
قراءة في المنجز الفكري لماجد الغرباوي.. التسامح والتجديد مثالا
النظرية الغرباوية في الميزان "نماذج"
ماجد الغرباوي قامة إعلامية وإبداعية في ساحة الفكر والثقافة العربية دون منازع، فقد استطاع بفكره أن يخصص له مساحة واسعة لنشر أفكاره والمتتبع لكتاباته يقف على أن الغرباوي مفكرا، مُنَظِّرًا وناقدًا في نفس الوقت فقد ارتكزت ابحاثه على الخطاب الديني وتحرير العقل البشري، مسلطا الضوء على كثير من القضايا التي نالت حظا من النقاش لدى النخبة المثقفة متخذا في ذلك مسارا جديدا في عالم الفكر والإستبصار، كما تناول قضايا تتعلق بمرجعيات الفكر الديني، حاول من خلالها إبراز سبب إخفاق الوعي الديني ولماذا انتصر الآخر علينا، كما تناول قضايا المرأة من وجهة نظر فلسفية تحررية، وما يمكن تقديمه من حلول مخاطبا في ذلك النخبة المثقفة من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأيّ نهوض حضاري، ويمكن القول أن ماجد الغرباوي قد أشبع طرحا مستفيضا في كتبه وأبحاثه متتبعا الواقع الراهن.
في هذه الورقة المتواضعة نقف على "النظرية الغرباوية" وما قدمته من أفكار ورؤى حول الإنسان في تقدمه تارة وتأخره تارة أخرى وفق ما تقتضيه الظروف، وماهي عوامل تراجعه عن مواكبة العصر والحداثة، فكتاباته تأتي لتدعم جميع توجهاته في المجالات السياسية والفكرية، لامس من خلالها الوضع العربي وما يعانيه من مشاكل تعيق ازدهار الحركة الفكرية والسياسية والثقافية، فجل كتابات الغرباوي تدعو إلى تنوير العقل البشري وتحريره من القيود عن طريق الحوار مع الآخر وممارسة النقد بأسلوب عقلاني حضاري، من أجل تقارب الأفكار بين الرأي والرأي المخالف/ المختلف، وبالأخص الصراع الدائر حاليا من جهة بين الحركات الإسلامية التي تبنت العنف كحل سياسي، ومن جهة أخرى حول مسألة الطائفية، وفي كل إصدار له نجده يغوص في إشكالية الأنا والآخر، الثابت والمتغير، المقدس والغير مقدس، يراجع فيها المفاهيم والأفكار حتى لا يُعَرِّضَ الوعي للإخفاق، خاصة حين ينفعل الوعي بالعالم الخارجي فيحوله ويُكَيِّفُهُ ويُغَيِّرُهُ، جعله ينتقل من مرحلة إلى مرحلة أبعد منها، إلى أن وصل إلى المرحلة الراهنة التي لم يستطع تعدّيها أو تجاوزها، لأن الأنظمة تغيرت وقوانين النظام الإجتماعي لم تعد ثابتة.
وقد شهد فكره الكثير من الباحثين الأكديميين الذين أشادوا بمشروعه الفكري الذي أثرى الساحة الفكرية والثقافية العربية، ورغم ان اسلوبه يتميز أحيانا بالتعقيد، لأنه لا يعتمد أحيانا على الخطاب المباشر أي المصارحة، إلا أن أفكاره تتفق في مجملها مع الكثير من المفكرين التنويريين، فقد حرص الغرباوي على تقديم أفكاره ورؤاه وفق معطيات منطقية لامس فيها روح الواقع بنظرة علمية متفتحة، ما يعني قدرته على "المناظرة" والتحدي من أجل كشف الحقيقة ورفع اللبس عن القضايا المعقدة، في سبيل الإرتقاء بمشروعه الفكري، كما نرى ذلك في كتاب د. صالح الرزوق (جدلية العنف والتسامح في المشروع الإصلاحي لماجد الغرباوي)، الذي ناقش فيه كتب الغرباوي: "إشكاليات التجديد"، و"جدلية العنف والتسامح " خاطب فيها الإنسان، هذا الإنسان الذي تطور في تمثله حركة العالم، بحيث ينظر إليه نظرة تاريخية، باعتبار أن التاريخ مادة متحولة متحركة، وفي كل حركة تاريخية يتحرك معها الإنسان، يظهر ذلك في عمله الجماعي، يتكون وينمو، فيضفي على نفسه صفة الواعي المدرك لمسؤوليته في العالم المعاصر، وقد يتأخر لظروف إجتماعية تؤثر عليه ومحيطه والبيئة التي يعيش فيها، فتجده يمشي بخطى مترددة كما أنه يتأهب لخوض معركة مريبة الخاتمة، فمن خلال ما وقفنا عليه من إصدارات آلينا أن نقرأ الغرباوي وما تحويه نظرياته من أطروحات.
التجديد عند الغرباوي هل هو ضرورة حضارية؟
فكتاب "إشكالية التجديد" كان عبارة عن اسئلة طرحها ماجد الغرباوي، هي اسئلة فرضتها حالة التخلّف والانحطاط الذي بلغته البشرية، فكانت موضع اهتمام الدارسين والمفكرين رفدت أقلامهم الوعي بكل جديد، من أجل نهضة حضارية تعيد للمسلمين مجدهم الضائع وأبقتهم في دوامة السؤال والبحث كمنتج فكري عن سبل كفيلة بانجاز نهضة تمثل هويتهم، وتجسّد قيمهم ومبادئهم، وكما جاء في الصفحة رقم 11 من الكتاب يرى ماجد الغرباوي ان التبعية إحدى مظاهر التخلف لأننا نعتمد على الغرب في كل ما نحتاجه، حتى ثرواتنا التي يحتاجها الغرب يصعب علينا فرض شروطنا عليه إلا بصعوبة، ومكمن الخطر أن الشعوب لا تعي مخاطر التبعية، ويشير ماجد الغرباوي إلى ما تعانيه الشعوب من استبداد سياسي صعب عليها تقرير مصيرها بنفسها، سواء التي تعيش تحت نير الإستعمار، أو التي تمارس حكوماتها التسيير الإستبدادي الدكتاتوري، من خلال مصادرة الرأي وقمع المعارضة وتلجأ إلى تكميم الأفواه عن طريق الإعتقالات.
ويربط ماجد الغرباوي الإستبداد الديني في العالم العربي والإسلامي بانتشار الفكر التكفيري، الذي قادته حركات إسلامية متطرفة وهذا بسبب القراءات الخاطئة للقرآن وتأويلاته والفتاوي التي أباحت قتل الآخر، وهتك عرضه وحرمته، ومما زاد في تفافم الحالة تعدد الخطابات، بين الدينية، الطائفية والقومية، ولا ينفك ماجد الغرباوي ان يقحم المرأة في أطروحاته، كما جاء في الصفحة 19، عندما اعتبر المرأة مقياسا لتطور المجتمع، وقمعها يعتبر أحد علامات تخلفه، حيث تعيش المرأة مسلوبة الإرادة والإختيار، بينما تعيش المرأة في الغرب إنسانا كاملا في الحقوق والواجبات، ولذا يرى ماجد الغرباوي أن التجديد ضرورة حضارية، منبثقة عن حركة الأشياء، الملاحظ أن الغرباوي يربط التجديد بالحداثة التي باتت ضرورة حضارية، رغم الهجوم الكاسح ضد المجددين، وصل إلى حد القذف والإتهام والطعن في الأعراض.
والتجديد في نظر الغرباوي لا يعني إلغاء الآخر أو إبعادة ووضع آخر في مكانه، وإنما يعني به تحديث أدوات التفكير عبر مناهج ونظريات حديثة خاصة في المسائل الدينية من أجل فهم الدين ومقاصده وغاياته ..الخ، في ضوء تكون وعي الإنسان، وهذا يحتاج إلى مراجعة الثوابت والفكر والثقافة، رفع الجمود على النص وتقليد السلف، والإنتقال من أسلوب التلقي الأعمى إلى البحث فلا يجب ان ننساق وراء حمايات لا نعرف عنها شيئا، أو نشارك من حيث لا نشعر بطقوس وممارسات تمتص طاقتنا ولا تساهم في إثراء النهضة، للإشارة أن كتاب إشكاليات التجديد طبع مرتين، الأولى في سنة 2000 ضمن سلسلة كتاب قضايا إسلامية معاصرة والثانية سنة 2001 ضمن نفس السلسلة في بيروت، وهذه الطبعة الثالثة، مع مقدمة بعنوان: التجديد والفعل الحضاري في ضوء التحول الثقافي والفكري.
و قد تحدث ماجد الغرباوي عن دور الثقافة في تحديد اتجاه الوعي، وقارن بين الثقافة المنغلقة والثقافة النقدية الجادة (المنفتحة)، الأولى كما يقول هو تفضي إلى واقع سلبي يغيب الوعي، وينتقد ماجد الغرباوي الحكم الأموي الذي مارس تزييف الوعي، إذ اتخد بعض علماء السوء بطانة تزور الحقائق وتضلل الأمّة التي هي بحاجة إلى وعي رسالي، ويشير ماجد الغرباوي في الصفحة 24 كيف واكبت الدراسات سير الرجال والإهتمام بأئمة أهل البيت في مكافحة الغلو والتطرف الفكري، في إطار مبني على منهج صحيح بعيدا عن الخطابات التحريضية من أي جهة صدرت ما دامت المسألة قابلة للبحث والدراسة، من وجهة نظر غرباوية فإن تخلف المسلمين سببه انقسامهم أمام النهوض الحضاري، الأول منبهر بالغرب وصل به الأمر إلى حد التبعية، الثاني أصولي متعصب للتراث ولا يرى غيره رافضا معطيات الحضارة الحديثة، والثالث عاد لمراجعة التراث يستنطقه دون التغلغل في اعماق الوسط الإجتماعي مهملا الجانب المعرفي، ولذا ترى النظرية الغرباوية أن الوعي يشكل نقطة انطلاق في مهام التجديد، والوعي عند الغرباوي يعني إدراك الواقع وتشخيص أخطائه، وإعادة النظر في إشكالية الحوار مع الآخر المختلف وفق مبدأ قرآني، دون أن ينسى دور المثقف في تكوين بنية المجتمع فكريا وفي تجديد هويته الثقافية.
تحديات العنف
وتشكل ثقافة العنف عند الغرباوي تحديات خطيرا لوجود الانسان منذ القدم، ولا يزال العنف من أخطر التحديات وأكثرها تعقيدا، وبات من الصعب العثور على طريقة تهدي إلى تشخيص الحلول الناجحة لتسوية الازمات، التي تفاقمت في العقود الاخيرة من القرن المنصرم وهذا القرن حتى تحول العنف الى سلسلة أعمال ارهابية وموجة تفجيرات وعمليات انتحارية طالت مناطق واسعة من العالم، اتهمت الرسالة السماوية بالدموية، حتى بات العنف علامة فارقة تتصف بها الحركات الإسلامية جميعا، ما يلاحظ أن ما داء في هذا لكتاب عبارة عن تقرير، تحدث فيه تحدث ماجد الغرباوي عن التكثيف الاعلامي المضاد لوسائل الاتصال الحديثة، بطريقة متهورة أحيانا، ليست أقل خطر من الأعمال الإرهابية ذاتها التي يرتكبها البعض باسم الدين، بل بات المسلم في نظر هذه الشعوب حيوانا مفترسا لا يستحق الحياة، بعد تجرد الإرهابيين من قيمهم الإنسانية وارتكابهم أعمالا مخزية ضد البشرية، أو ضد التطور الحضاري، فصار العنف يشكل تحديا كبيرا للمشروع الإسلامي الحضاري.
يطرح الغرباوي مسألة العنف من وجهة نظر فلسفية، هل هو حقيقة أم هو استعداد قابل للتطور والتفاقم؟ وهل هو حاجة غريزية؟ أو فعل إرادي يمكن السيطرة عليه؟ أم أمرا عارضا على الإنسان يمكن التخلي عنه؟، يقول الغرباوي أنه صعب الإجابة على هذه الأسئلة، لأن هناك اختلاف في الرؤى والتصورات بين الفلاسفة والإنتروبولوجيين، مستعينا بحوار الإنتربولوجي المغربي عبد الله حمودي وذكر رد هذا الأخير في الصفحة 96، إذ يؤكد في الصفحة الموالية للكتاب أن مشكل العنف مشكل شائك وحضوره قائم، بمعنى أنه لن يكون مآله الزوال ومن ثمّ القضاء عليه مستحيل، في البداية انطلق الغرباوي من تاريخ نشأة العنف عندما تحدث في الصفحة 32 عن حادثة ابني آدام (قابيل وهابيل) التي عكست طبيعة العلاقات التي مر بها الإنسان خلال مراحل حياته، وهذا يعني كما يقول الغرباوي أن تاريخ البشرية بدأ بالعنف في أول خطواته، كما يقدم الغرباوي صورة واضحة لفكرة "الجهاد" إن كانت تعني قتل الأبرياء الذين يختلفون معهم دينيا أو مذهبيا أو تعني تفجير الساحات العامة والمباني والمؤسسات ومحطات النقل؟ وهل من الجهاد قتل الذين يمارسون شعائرهم الدينية باسلوب انساني مسالم؟ وهل من الاخلاق قتل النساء والاطفال وذبح الاسير، من الوريد الى الوريد؟ انها أعمال لا انسانية فكيف يرتضيها دين الاخلاق والقيم الانسانية.
يقول الغرباوي أنه حان الوقت لمقاربة الاسئلة الممنوعة واستنطاقها والتنقيب عنها في اعماق التراث بحثا عن مكوناته وآليات تكوّنه، اذ ما زال التراث يتحمل القسط الاكبر من مسؤولية التخلف الحضاري للمسلمين ذلك يكون عن طريق فتح حوار مع الذات عن الخلفية التي ينطلق منها الأصولي والمتطرف في ارتكابه ممارسات إرهابية وإقدامه على عمليات انتحارية ضد الناس الأبرياء، فالتمادي في ممارسة الارهاب المسلح دون مناقشات علمية للبنى العقدية القائمة عليها، سيجعل من الاخيرة مرجعية يرتكز اليها كل من يبغي محاربة الآخر ممن يختلف معهم دينيا أو فكريا أو عقديا، ويقارن الغرباوي بين ما تمارسه الجاليات العربية والاسلامية التي تعايشت مع الآخر ونشأت بينهما علاقة مفعمة بالتسامح والاعتراف بالتعدد الثقافي والديني في الوقت الذي مارست فيه بعض شرائح المجتمع، كل أشكال العنف المسلح حتى صار العنف سلوكا يوميا عندها بل تحول إلى ثقافة وفكر وعقل ومنهج في التفكير؟ ويرجع الغرباوي السبب إلى تسلط الأنظمة على شعوبها وتدميرها القيم الانسانية، واستنبات قيم جديدة اعتمدت العنف واستباحت المحرمات الانسانية والدينية.
جدلية العنف والتسامح في المشروع الإصلاحي لماجد الغرباوي
هل الغرباوي رجل إصلاح؟ ومن ثم يمكن ضمه إلى قائمة الإصلاحيين مثل الكواكبي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني، هذه الأسئلة تقودنا إلى تحديد مفهوم الإصلاح عند الغرباوي، فهو يرى أن الإصلاح واقع مادي جوهري وله قيمة فوق تجريدية وهو مرتبط بالتجديد، حتى الذين تابعوا كتاباته أجمعوا على أن ماجد الغرباوي لم يذكر الإصلاح إلا وأردفه بالتجديد وفي جميع حواراته، لم يكن يفصل التجديد عن الإصلاح والعكس، كما أن جل رجال الإصلاح من المشرق العربي إلى المغرب العربي ركزوا في دعوتهم على مصطلحات تشمل التجديد والإصلاح والتسامح والتعايش، اكتسبوا من خلالها درجة من التقديس أبعدت عنهم كل الشبهات والتهم، وهذا الكتاب يعتبر متمما أو مدعما لما سبقه، ولذا اهتم الغرباوي من بين كل الإصلاحيين بالأفغاني، إذ يرى الأفغاني في إصلاحه أنه إصلاحي نهضوي وكان مجددارغم أن العاطفة الإسلامية تغلبت على انبهاره بالحداثة، يقول الغرباوي ان إسلاميات الأفغاني كانت موضع تشكيك من السلفيين.
أما مسألة النهضة فالغرباوي يعرضها كأطروحة ثابتة تشمل مفهومين: الأولى إحياء وبعث الدين بلا انحرافات، والثانية ربط السياسة والأفكار بالعقائد، كما يرى الغرباوي أن شيخ الإصلاح محمد حسن النائيني يشترك مع رواد الإصلاح بنفس الإستراتيجية، فهو مثلا يرفض الجهاد ضد الحاكم المسلم في المقابل يقبل بالأعمال الحربية ضد الإستعمار، ويلاحظ أن الغرباوي كما جاء في القراءة التي أجراها الدكتور صالح الرزوق في مشروع الغرباوي أن هذا الأخير في حديثه عن الإصلاح والإحياء الديني كان أكثر وعيا بالسياسة عند أئمة الشيعة الإصلاحيين ومنهم باقر الصدر وروح الله الخميني وأفرد لهما مساحة خاصة للتدليل على أن الإصلاح هو نهضوي فعلا، له غاية تتلخص في إحياء الدولة الإسلامية، ولذلك لا يختلف الإصلاح عن التجديد في مفهوم الغرباوي حيث يدعو إلى فتح باب الإجتهاد حتى في الثوابت، ومن هنا تنعكس فلسفة الإصلاح عند الغرباوي عن باقي المصلحين أو الإصلاحيين إن صح التعبير، حيث يجعل التسامح في مقدمة أطروحاته، من باب ان التسامح أمر الهي وعقيدة وطنية، إلا أنه يرى ان الحرية شرط أساسي للتسامح فهي ضمان من التخلص من الأبوية، فهو يرى الحرية مطلب ديني وحاجة غريزية.
متابعة علجية عيش