أقلام ثقافية

مجيدة محمدي: رقص على حواف المقص

في مشغل خياطة الحي، وفي لحظة تأمل مسهب، أدركت أن المقص ليس مجرد أداة، بل هو كائنٌ حدّي، يعيش على الحواف، بين ما كان وما سيكون. إنه يد القدر الحادة، يقتحم مساحات القماش الهادئة دون أستئذان، يقصّها بحدٍّ بارد، وكأنه يمارس طقسًا مقدّسًا من التفكيك والخلق.

والقماش، في استسلامه المهيب، يفتح صدره للمقص، يتقبّل ضرباته كعاشقٍ يخضع لمعشوقٍ جائر، لأنه يدرك أن الألم هنا ليس إلا طريقًا إلى التجلّي.

كالحياة، مساحة شاسعة من الاحتمالات. بدايته بيضاء، خامة عذراء تنتظر قصصها، وحين يأتي المقص، يحدث الانشقاق الأول، الجرح ليس صدفة، إنه لحظة مفصلية، كأنما الزمن نفسه إنحنى ليحدث شرخًا في الاستمرارية. فيستحيل الجرح هو أول علامات التغيير، والألم هو النذير الخفي للخلق !

لكن المقص لا يملك قلبًا. لا يلتفت إلى صرخات القماش المكبوتة ولا يهتم بالأنين الصامت. هو القدر حين يقرر، أن  يقطع مساراتنا دون إنذار، حين يبدّل خرائطنا ويرسم طرقًا جديدة لم نكن نراها. لكنه في قسوته هذه، يُعيد ترتيب الحكاية، يُحوّل القماش من امتدادٍ عشوائي إلى كيانٍ جديد. كما القدر لا يسألنا عن رغباتنا، فإن المقص لا يسأل القماش عن شكله المفضل.

لكن، هنا يكمن السحر. الجرح الذي يخلقه المقص، هو ذاته الذي يُطلق إمكانيات القماش. وما كان مجرد مساحة بلا شكل يصبح ثوبًا، قطعة فريدة، قصة بصرية تُروى في كل خيطٍ فيها. لندرك ان الجرح هو نقطة البداية، وليس النهاية. فالمقص، رغم قسوته، هو الحرفي الذي يعيد صياغة العالم، يخلق من الفوضى نظامًا، ومن الامتداد معنى.

والقماش، رغم إستسلامه الظاهري، ليس ضعيفًا. إنه يحتضن ضربات المقص كمن يتماهى مع قدَره، يحوّل الجراح إلى هوية، إلى حوافٍ تُبرز جماله المخفي، هو  يعلم أن كل قطعٍ هو شهادة على تحوّله، على عبوره من المجهول إلى المعروف، من الإمكان إلى التحقّق.

وقصاصاته. تلك الأشلاء التي تبدو هامشية، تحمل بقايا القصة. إنها الأجزاء التي يتركها القدر وراءه، كذكرياتٍ مُبعثرة، كإمكانياتٍ لم تكتمل. أحيانًا، تُجمع تلك القصاصات من جديد، تُنسج من أطرافها حكايات جديدة، كأنها بقايا حياة أخرى تُولد من رماد ما ....

وتعلمنا أن المقص والقماش، هما نحن والعالم. علاقتنا بالقدر ليست إلا مواجهة مستمرة بين الجرح والإبداع، بين القسوة والخَلق، بين الألم والتحوّل. نحن، مثل القماش، نُجرَح، نُقطَع، لكننا أيضًا يعاد تشكيلنا، نصبح أثوابًا جديدة، نرتدي حكاياتنا بفخرٍ أو بمرارة، لكننا دائمًا، في كل شقٍ وكل خيط، نصبح أكثر اكتمالًا مما كنّا.

***

مجيدة محمدي

خاطرة

 

في المثقف اليوم