أقلام ثقافية

احمد صابر: ذاكرة واحة (4)

فصل الربيع تطل أيامه الأخيرة، الماء في الساقية الرئيسة داخل الواحة، لم يعد بالوفرة التي كان عليها، الساقية أيام عزها تجرف الماء من النهر الكبير ليلا ونهارا، وتلقي به داخل مختلف الجداول الصغير منها والكبير، يفضل أهل الواحة الجلوس على جنبات ساقية الماء الرئيسية التي تخترق الواحة من أعلاها حتى أسفلها، ويختارون مكان جلساتهم  في نقطة تقاطع مسلك طريق بمسلك آخر، منهم من يجلس القرفصاء وعينه على الماء الذي يعبر الساقية، يحمل معه بعض الأعشاب على السطح، بين الحين والآخر تظهر سمكة من بين الأسماك الصغيرة التي تجرفها الماه، بين فترة وأخرى تقفز ضفدعة من أحد جنبات الساقية وسط الماء، التطام جسمها بسطح الماء، يخلف من ورائه قطرات، تعلو في السماء وتأتي على ثوب الجالسين، وبعدها يقفز ضفدع آخر بلون أخضر في نفس المكان، أمر غريب، من هذا الذي يطارد الضفادع، هل يلاحقها نوع من الأحناش... في الأخير اتضح بأنه ذكر يلاحق أنثاه، وقد تعانقا عناقا حارا أسفل الماء. الغريب أن الضفادع تقترب من الجالسين، أرجلها في الماء ورؤوسها بادية للعيان، في حالة خشوع، بين الحين والآخر يظهر انتفاخ كبير من تحت فكها السفلي، ربما أنها تسترق السمع، وتتبع كلام الجالسين، عندما تقترب منها، تقفز قفزة جماعية وسط الماء.

من الجالسين، من تجده متكئا على جانبه الأيمن أو الأيسر، ومرفق إحدى يديه إلى الأرض ورأسه إلى الأعلى، متخذا من إحدى كفيه وسادة لرأسه، ومن هم من يجلس متكأ على جذع نخلة عالية تطل عليه برأسها من الأعلى، وأرجله ممددة إلى الأمام في اتجاه الماء...البعض من الجالسين يأكل بعض من حبات التمر، ويلقي بالنواة في الماء بعدما يمتصها امتصاصا، من داخل فمه. المحبب عند أهل الواحة أن تأكل التمر وتلقي بالنواة في كل أرجاء الواحة، لعلها تتحول إلى نخلة، فمعظم النخيل في الواحة وخاصة التي لا تنتمي لنوع أصيل من النخيل، جاءت نتيجة نواة التمر، التي نمت وتحولت إلى نوع فرعي من أنواع التمور، فالتمر  والنخيل الفرعي  عند أهل الواحة يسمى "بالخلط" لأنه خليط ومزيج تفرع عن الأنواع الأصيلة، والعجيب أنه يأتي أحيانا بتمر ألذ وأطيب من تمور النخل الأصيلة.

النخل والتمور الأصيلة معروفة بأسماء مشهورة، فرغم اخلاف الاسم ما بين منطقة وأخرى داخل الواحة وحتى خارجها، فصنف التمر يكون معروف ومميز عن غيره، فالحصول على نوع من هذه الأنواع يقتضي نزع النّخيلات الصغيرة جدا المحيطة بالنخلة الأصيلة وغرسها بعناية. الأنواع الأصيلة من التمور معروفة عند أهل الواحة بأسمائها وبشكلها الموحد، وبلونها عندما تكون بلحا ورطبا وتمرا... البلح يأتي باللون الأحمر أو اللون الأصفر أو اللون الأخضر، الألوان الحمراء تتحول إلى تمور باللون الأسود، والألوان الصفراء تتحول إلى تمور باللون العسلي، والألوان الخضراء تتحول تمورها إلى تمور قريبة من اللون الأخضر... والحقيقة أن ألوان البلح لا يمكن عدها أو حصرها، كما أن ألوان وأنواع التمور لا يمكن عدها وحصرها...

تعدد نوع ولون وشكل وطعم ومذاق وسمك وصلابة وليونة وملمس...التمر يصدق عليه ما ورد في القرآن قال تعالى" وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)"(النحل) قد يكون الصواب إلى جانبنا إن قلنا بأن أنواع النخل والتمور لا يصدق عليها العدّ، نتيجة ما يتفرع عنها من أنواع وفروع نتيجة نواة التمر التي تنمو كحبة قمح في الأول وإذا بها تأخذ وقتها الكافي يقرب من ستة أو سبعة سنوات لتتحول إلى نخلة تأتي بنوع ذو بصمة خاصة من التمر، لا قبل لك به من قبل، من جهة الذوق أو الطعم أو الشكل... ومن هذا الذي يدعي أنه يعلم كل أنواع التمور عبر العالم، فهناك تقديرات تجاوزت بضعة ألف نوع عبر العالم، في الحقيقة النخيل وأنواع التمور في حلقة متجددة عبر الزمن، فقد تختفي أنواع بعيها، لتظهر أنواع أخرى، التمر يجري عليه قانون لا نهائية النوع من كل الجوانب، صحيح بأن طبيعة التنوع تجري على مختلف تمار الكروم والأشجار ولكن تنوعها لا يقارن بتنوع تمار وشجرة النخيل.

جلسات أهل الواحة، في فصل الربيع وغيره، وهم يستمتعون بجريان الماء، لا تنقطع، إذ تبدأ من الصباح وتتفرق عند الزوال لتعود إلى ما هي عليه في المساء، يخيل إليك أن جموع الناس لا شغل لهم ولا مشغلة، ولكن على العكس من ذلك، فمنم هذا الذي تجده يكرس كل وقته لتلك الجلسات، التي تتبدل وتتجدد على مدار الساعة، الكل يسرق ساعة من وقته، صباحا أو مساء، ليجلس هنا أو هناك، والكثير منهم يسرقون أقل من ربع ساعة وهو في طريقهم إلى حقولهم أو عائدين منها. الجلسات داخل الواحة بمثابة نقط وصل واتصال فيما بين أهل الواحة، يتناقلون من خلالها مختلف الأخبار المفرح منها والحزين، يتداولون من خلالها بشكل عفوي في مشاكل ومستجدات الواحة.

ما يدور في مختلف الجلسات يعبر عن المواقف الجماعية لأهل الواحة في علاقة بعضهم ببعض، والغريب أن مواقفهم تأتي متضاربة أحيانا وقد تأتي متعارضة، ومتباينة بتباين مصالحهم، حول المراعي والكلأ وحول توزيع الماء وحول حراسة القصور والقصبات، وحول طرد الغرباء، وقطاع الطرق في الصحراء بالقرب من جنبات الواحة، وحول فرض نظام الواحة والخروج من حالة التسيب والفوضى، وهي حالة تحضر وتغيب على طول الزمن.

الكثير من الذين يرتادون مختلف الجلسات وخاصة تلك التي يجتمع فيها الكهول من الرجال، يسترقون السمع من هنا وهناك، يتميزون ببراعة في فك ألسنة الجالسين، ليسمعوا عنهم ما ضاقت به صدورهم، من أمور يرون أنها من حقهم وسارت لغيرهم، من أبناء عمومتهم أو لآخرين لا تربطهم بهم صلة دم، يفهمون إيحاءات الكلام، وقد تسعفهم السخرية في العبارة في فهم مواقف هذا الطرف من ذلك الطرف الآخر.

دور هؤلاء الذين يسترقون السمع ويجمعون كل الأخبار، أنهم يقصدهم، شيوخ وأحيان أهل الواحة من هذه القبيلة أو تلك، وقد يشيرون عليهم بالحلول الوسط لمختلف ما يحل بهم من مشاكل اجتماعية، مجملها يتعلق بتدبير الماء داخل الواحة، فكل ما يخشاه أعيان وشيوخ قبائل أهل الواحة، هو السقوط في فخ صراع وخصام  قبيلة و أختها، وقد يتسع الصراع ويمتد بين مختلف التركيبات الاجتماعية لأهل الواحة، بين من يملك الأرض، وبين من يفلحها، وبين من يمتهن رعي الماعز والجمال... ومن داخل هذه التركيبات المعاشية وغيرها، تركيبة أخرى تنبني على قرابة الدم، فكل قبيلة تعتز بوليها وتاريخها ولها أعراف وعادات.... لا شيء يماثل النزاع والفتنة داخل الواحة إلا عنصر الجفاف، الجفاف يقلص دائرة الحياة في الواحة، والفتنة والنزاع يقلص مساحة الإعمار. الجفاف يحد من نعمة التمر، والفتنة والنزاع يحد من نعمة الأمن والأمان. وكلاهما نعمة التمر ونعمة الأمن لا حياة للواحة دونهما.

فشل قبيلة ما في تدبير أمر الماء بين أهلها، داخل الواحة، يعني تبذير الماء قليل كان أو كثير، بعناد الجميع في دفعه في اتجاه حقولهم، ضدا في غيرهم، فأهل الواحة بالقدر الذي يتصفون به باللطف والتضحية والتضامن... يتصفون في الوقت ذاته بالعناد والأنفة الزائدة التي تتحول إلى أنانية ساذجة. وقد يبلغ الأمر بهم إلى حالة من الانتقام الجماعي فيما بينهم، بإقدام بعضهم على تخريب منبع الماء القادم من النهر أو العين التي تسقي الواحة، العنصر الذي هم في نزاع بشأنه يتعمد بعضهم إتلافه، حينها لا شيء أمامهم موضوع للمنازعة، ولنجاتهم وحبا في واحتهم يجلسون لطاولة الحوار، وتزداد حدة الجدال في مختلف الجلسات التي تدور هذه المرة الى جانب الساقية التي فارقها الماء، وقد يبقون على هذه الحال أسبوعا أو أسبوعين، حتى يتمكنوا من العودة إلى النظام بالعرف المتعارف عليه بينهم في توزيع الماء.

يخيل إليك لأول وهلة، أن أعين الماء  ومختلف السواقي، أنها تسقي مختلف حقول وبساتين الواحة من تلقاء نفسها، ولكن حقيقة الأمر أن توزيع الماء داخل الواحة تحكمه أعراف وقوانين صارمة، وخطط للري وتصريف الماء من المكان القريب إليه إلى المكان البعيد، وتصريفه بقدر محدد في اتجاه المكان المنحدر وبقدر أوفر نحو المكان المرتفع، عندما تستوطن في جانب من جنبات الواحة بداخل قصر من القصور أو قصبة من القصبات، في الوهلة الأولى يخيل إليك أن الواحة عبارة عن غابة من أشجار النخيل تشكلت من تلقاء ذاتها، ولكن يوما بعد يوم تدرك أن المجال تحكمه هندسة ري وضعت بإحكام،[2] تبدأ من النهر الكبير، ببناء سد صغير في نقطة مختارة بعناية من النهر، الهدف من السد هو رفع الماء بزاوية 45 بدرجة  الى الساقية التي تمتد على طول أربع كلومترات أو أكثر، وبعدها تصب الماء في جداول تسمى بالمصاريف، لأن الماء يصرف بداخلها في الاتجاه والمبتغى المطلوب، وتتفرع عن المصاريف الرئيسية مصاريف فرعية، ومنها يصب الماء في قلب مختلف الحقول والبساتين.

نظام الواحة الهندسي في توزيع الماء لا شك أن وضعه على وعي بشكل كبير بالمجال الطبوغرافي المتشكل من المرتفعات والمنحدرات، ونوع التربية بالقرب من النهر أو البعد منه، والأمر المثير للإعجاب في تلك الهندسة المحكمة للمصاريف الرئيسية للماء، التي تتباعد فيما بينها في المنع على طول الساقية. أن معظمها يلتقي في نقطة واحدة بعد ما تفرعت عنها عشرات الجداول والمصاريف الصغيرة والفرعية التي يتسرب الماء منها بقدر، فالفائض من الماء قد يتسرب في اتجاه الوادي الكبير ليزيده جريانا، تستفيد منه سواقي أخرى على طوله.

يعتمد أهل الواحة في تنظيم الماء على مبدأ التناوب، فلكل أسرة كبيرة أو صغيرة حصتها من الماء تتوارثها أبا عن جد، تستولي فيها على الساقية، إذا يكون الماء بأكمله في ملكيتها لمدة معينة نصف يوم مثلا أو ساعات مثلا أو ساعة واحدة، أو نصف ساعة، ومن حقها أن تصرف الماء إلى حقولها أو حقول غيرها، فهي سيدة الموقف في التصرف فيه، فدورة التناوب على الماء قد تغطي شهرا أو خمسة وعشرين يوما أو عشرين أو خمسة عشر يوما وهكذا..، وهي فترة تكون كافية لسقي الجزء الهام من جانب من جنبات الواحة، فدورة المياه لها أصول ملكية وسقف زمني لا يمكن تغييره إلا بموافقة جماعية.

لازالت الأيام الأخير من فصل الربيع تطل وتدفع في اتجاه الاقتراب من فصل الصيف، لازال البعض في مقتبل النهار جالسين إلى جانب الساقية، يحدقون بأعينهم في سطح الماء، وهو يجر من فوقه قليل من الأعشاب حينا، وبعض من نواة التمر حينا، مرور الماء وجريانه بداخل الساقية يشبه مرور الزمن والأيام تلو الأيام، لا عودة حقيقية بالزمن إلى الوراء، إلا أن ذلك قد يحدث في أذهان الجالسين من الناس، بينما لا يصدق ذلك على ماء الساقية الذي يندفع ماؤها إلى الأمام، إنها سنة التغير والتحول من لحظة إلى أخرى التي يتصف بها الزمن، وقد صدق  هرقليطس القول " لا نسبح في النهر مرتين".

ماء الساقية يتصف ماء عذب، مصدره مختلف العيون التي تنبع على طول النهر الكبير، ولكن هذا الموسم أحسّ أهل الواحة أن الماء الذي يجري داخل الساقية تسربت إليه الملوحة، وبدأ يفقد عذوبته، وهي علامة تدلهم أن منابع العيون العذبة قد بدأت تجف من أعلى النهر الكبير، يا الله لعلها تكون لحظة عابرة.

... يتبع....

***

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

..............................

[1] موضوع الري وتوزيع المياه بالواحات موضوع مهم وقد أنجزت بشأنه العديد من الدراسات، من لدن أجانب وعرب، وقد فاجأني عالم الاجتماع المغربي عبد الله حمودي عند لقائي به سنة 2014م، بأنه أنجز بحثا في ري الماء وتوزيعه على ساقية بواحة درعة بالقرب من مدينة زاكورة الساقية اسمها "تاكمدارت".

في المثقف اليوم