أقلام ثقافية

احمد صابر: ذاكرة واحة (2)

الآن دقت ساعة الصفر طبول ندرة المياه تضرب في كل مكان، منابع عيون الماء تجف شهرا بعد شهر وأسبوعا بعد آخر، النهر الكبير كاد يتوقف عن الجريان، الأسماك فيه محاصرة بين بركة وأخرى، وقد حرمت من السفر عبره نزولا وصعودا، صخور النهر سارت مكشوفة، عارية، ليس هناك ما يحجبها من أعشاب وطحالب الماء. الذين لجأوا لتعويض النقص بحفر الآبار كثرت شكواهم نتيجة نقص حاد في الفرشة المائية، فكلما تسرب الماء إلى الأسفل، إلا وبادروا بزيادة عمق آبارهم، البعض منهم استنفذ جهده وتوقف عن الحفر. حفاري الآبار قلت حيلتهم، فقعر البئر الواحد اشدت ظلمته كثيرا، وقلّ بداخله الهواء، والدليل على ذلك أن شعلة الشمعة في قعر البئر لا تصمد طويلا وتنطفئ، وذلك دليل وحجة قاطعة بأن الهواء في قعر البئر غير كافي، ومن هذا الذي يختار أن يكون قعر البئر قبره.

الكلأ في براري الصحراء التي تلف الواحة من كل جانب، شحيح وقليل في هذا الموسم ، شجرة الطلح التي تخضر أورقها وتتفرع أشواكها لم تعد كما كانت، وقد اقتاتت الجمال على ما اخضر من أوراقها بما فيها الأشواك...الجمال تأكل كل أصناف الأشواك في الصحراء بدءا من أشواك الطلح وأشواك السدر وشوك السعدان وهو شوك يمتد على سطح الأرض، ويحول مساحة منها الى دوائر مغلقة، يعلق بداخلها من نزع حذاءه، فعندما يمشي المرء حافياً على الرمال التي تنمو فيها نباتات السّعدان المثمر تنغرس الأشواك في قدمه وتبقى ثابتة، ويحتاج نزعها لجهد ومشقة، القليل من الناس من يسقط في هذا الفخ في جانب من جنبات الصحراء، فأشوك السعدان تكون هي وأوراقها لينة في فصل الشتاء ولكن بعد فصل الربيع، تتحول إلى إبر ومسامير.

 ثمرة السعدان على شكل كويرة صغيرة الحجم تحيط بها رؤوس أشواك كثيرة، وقد ورد في الحديث " وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان"   مسكين نبات السعدان هذا وقد ضرب به المثل من أجل التشبيه وتقريب الصورة، والمفارقة أن اسمه قريب من السعد والسعادة، كامن من الأولى أن يكون اسمه شوك التعسان، ولكن رغم كل هذا فنبات السعدان مهم ومفيد في غذاء المواشي في فصل الشتاء والربيع، وهو نبات معروف في الطب التقليدي.

الجمال لا تنهزم أمام مختلف أشواك الصحراء، وهي تلتهمها بشكل سهل وبسيط، ولكن فصل الربيع هذه السنة لم يترك وراءه إلا القليل من أشواك مختلف النباتات، بعد أن تساقطت كل أزهارها، نتيجة قلة وندرة قطرات المطر، قطعان الجمال التي لا تكلف أصحابها شيئا، إلا أنهم يتبعوا حركتها وهي تجوب مختلف مراعي الأشواك، سار وضعها هذه الأيام متأزم، الجمال تجوب الشعاب ذهابا وإيابا وأعناقها على الأرض حينا وإلى السماء حينا آخر، دون فائدة، الكثير منها سار نحيف الجسم والبنية، وفصل الربيع هو فرصتها، الفرصة الوحيدة في السنة للكلأ الوفير... يا الله كل البوادر تنبئ بما لا يحمد عقباه.

إذا كان وضع فصل الربيع على هذه الحالة، فهو ينذر بفصل صيف شديد الحرارة، وبشدتها أكثر، تزداد برك الماء في النهر ضيقا وانكماشا على نفسها، الحيتان بداخلها تتجمع في دوائر متقاربة، مما يجعل صغارها فريسة سهلة أمام كبارها، الضفادع لها فرصة حياة أخرى في اليابسة، ستنغمس في كثبان الرمال جانب الوادي، وهي تبذل جهدا جهيدا لتتقمص حياة السحلية (أبو بريص) إنها مغامرة صعبة، أن تنتقل من قعر بركة ماء تسمح داخلها كما تريد، وتقفز بين نقطة وأخرى... وإذا بها داخل جوف كومة عالية من الرمال...إنها مغامرة من أجل البقاء.

جريد النخل يفقد لونه الأخضر ويميل الى اللون البني، لا أثر لجداول الماء التي تخترق الواحة طولا وعرضا، الطيور التي اعتادت على أن تبلل ريشها لتقي نفسها شدة الحر، بالكاد تجد الماء الذي تشربه. جوف الواحة وسط النهار بعد الظهيرة يخلو من المارة، إلا للضرورة، الكل يبحث عن مكان يقيه شدة الحر. حرارة الصيف تنبئ مرة أخرى بخريف جاف، تمسك فيه السماء قطرات مائها، وتزداد حاجة الأرض والنبات إلى الغيت أكثر من السابق.

قبل الصيف تم حصاد القليل من سنابل الزرع والقمح، التي لم يثمر إلا القليل منها، وكل أمل أهل الواحة في الموسم القادم من الحصاد، وقد أخذ الشك البعض منهم، إلى درجة التنبؤ بأن هذا هو آخر موسم حصاد مثمر، فالقادم سيكون أسوأ، ومنهم من يمتلكه أمل كبير، بأن القادم سيكون أفضل، والكثير منهم، يقضي يومه ولا يفكر في غده كيف سيكون. 

موسم الحصاد له طقوس وعادات وتقاليد، فقبله بأشهر يعد أهل الواحة شباكهم، وهي من صناعة محلية، إذ تفتل من سعف النخيل، المختار من أنواع خاصة من جريدة النخيل، أو من سعف جذع النخيل، ذو اللون البني، ويسمى بـ(لفدام) وهو عبارة عن صفائح خشنة تلف جذع النخلة، والكثير من أنواع النخيل يستغني عنها، كلما ازداد طولا.

الشباك أنواع، منها الكبيرة الحجم للبغال والصغيرة والمتوسطة الحجم للحمير، تلقى بداخلها كمية كبيرة من سنابل القمح أو الزرع... وتحزم، ويرفعها أربعة أو ستة رجال شداد على ظهر الدابة، ويتركوا واحدا منهم لمواجهة مصيره طول الطريق الضيقة والوعرة، وهو يخطوا خطواته بحذر وهو إلى الوراء من جهة الجانب الأيسر للدابة، ماسك بالشباك على ظهرها، ومتحكما في طبيعة تأرجح الشباك يمينا ويسارا، في كامل الاحتياط بألا يميل ميلة واحدة إلى اليسار أو إلى اليمين، وإن حدث ذلك، فسيسقط الشباك على الأرض. وربما أن الدابة ستهرب ظنا منها أنها تخلصت من عبئ ثقل كبير. فأول ما ينبغي أن تحتاط منه، عندما تخسر الرهان، ويميل الشباك ميلة واحدة يمينا أو يسارا، ويأتي على الأرض، أن تمسك بالحبل جيدا حتى لا تهرب الدابة وتتخلى عنك، وتتركك وحيدا في منتصف الطريق، تحدق في الشباك وكومة سنابل الزرع بداخلة وهي محكومة بالحبال من كل جانب.

 كيف ستكون حالتك وأنت على هذه الحال؟ إنه إحساس بالخيبة، تضرب كفا بكف، تمسح قطرات عرق جبينك، تبسق على الأرض، تلعن الزمن، تحضرك لحظات ومواقف من خيبة الأمل التي عشتها مثل هذه، كان كل أملك أن تبرهن للأسرة ولأقرانك ولكل أهل الواحة، بأنه يعول عليك، وبأنك قادر على أن تصل إلى الهدف، والهدف في هذه الحالة يبدأ من الحقل والشباك قد رفع على ظهر الدابة، وينتهي بالبيدر الذي لازال بعيدا. ما هذا الحظ التعيس، قد يقولون عنك بأنه ليس من ورائك فائدة، أنت لست مثل أقرانك الأفذاذ من أهل الواحة... كثيرة هي الإيحاءات التي تسيطر عليك وأنت على هذه الحال... لكن عندما تخطو بعض الخطوات في جنبات المكان، وإذا بك تسمع صدى صوت بعض الحيوانات نهيق حمار، خوار بقرة... وبعدها يعم صمت رهيب تكسره زقزقة العصافير... تلتفت يمينا ويسارا حيث لا يذهب بصرك بعيدا وأنت في غابة من النخيل، تنسى مشكلتك التي أنت فيها، ولا يهمك كيف سيكون الحل...فالذي أنت متأكد منه أنها مشكلة بسيطة حلت بيومك، أضفها إلى التي سبقت، هكذا هي الحياة.

كان عليك أن تحكم الحبل وتمنع  الدابة من الهرب، فأنت الآن بين خيارين، كلاهما سيجلب لك سخرية أهل الواحدة، إن تبعت الدابة تجري من ورائها سيسخرون منك كثيرا... ويتهامسون فيما بينهم، هذا شاب لا خبرة لديه، دابته تجري وهو يجري من ورائها، رجل فارق عقله واستحوذت عليه دابته، أنظروا إنها تفعل به ما تريد، لا خبرة لديه في ترويض الدواب، ذوي الخبرة والترويض الصحيح، لا تواجههم هذه المواقف... قد تجد من يعترض دابتك ويساعدك على الإمساك بها، ولكن كن على أتم الاستعداد لأنه سيسخر منك قليلا أو كثيرا، هناك الكثير ممن يساعدك ويقف معك بجد، دون سخرية، إلا أنه يحتفظ بسخريته لمكان آخر، وإلى لقاء آخر، قد يأتي وقد لا يأتي.

أما إن استسلمت وجلست إلى جانب شباك الزرع، وتركت الدابة هاربة لوحدها، فتلك هي السخرية بعينها. فالمارة في الطريق، تلك هي فرصتهم للتصريح بموقف مساعدتهم لك مع وقف التنقيد، يا الله بإمكاننا مساعدتك، ولكن مع الأسف دابتك هربت...وماذا عساك تفعل الآن... حدثنا كيف حدث لك هذا؟  ما كان على الشباب أن يقع على الأرض بهذه الطريقة! هل أخذتك غفوة نوم؟ أين كان عقلك؟ هل هي حالة سهو؟ ومن هذه التي أخذت عقلك؟ وهل ستبقى تنتظر دابتك لتعود إليك من تلقاء نفسها؟ أترك الشباك وأتبعها...كان الله في عونك...

أمام كثرة الأسئلة تجد نفسك عاجز عن الجواب، أي جواب أختار، هل ألقي باللوم على نفسي؟ أم ألقيه اللوم على الدابة بكونها تعثرت وسقطت ووقع ما وقع؟ بالإمكان أن ألفق لها التهمة، الكل يفعل هذا، فالجميع عند عجزهم يلقون باللوم على الآخرين، الكل يبعد المسؤولية عن نفسه في كل ما هو غير مرغوب فيه، وفي الوقت ذاته يدعي لنفسه كل ما يعلي من شأنها. أليس الناس على هذه الحال إلا النادر منهم؟

أهل الواحة يحبون السخرية كثيرا، فالسخرية لديهم جزء من حياتهم اليومية، فالكبار يسخرون من الصغار في حضرتهم، والصغار يسخرون من الكبار في غيابهم، وكل ذلك بهدف الفسحة والمرح، السخرية خطاب يجلب معه مختلف الألقاب والأمثلة، ومختلف أنواع الكناية والمجاز والتشبيه، السخرية عند أهل الواحة ليست بهدف الحط من قيمة الأفراد واحتقارهم، إنها جزء من اللغة والخطاب والتواصل بين الناس.

 والغريب أن الحياة بدورها اعتادت أن تسخر من أهل الواحة، فما تمنحهم إياه هذا الموسم، تأخذه منهم بالكامل في الموسم الآخر، والحقيقة أن الحياة لا تسخر من أهل الواحة من زاوية أنها تحتقرهم، أو أنها ترى غيرهم أفضل منهم، ولكن ذلك من باب أن أهل الواحة يشملهم قانون الصحراء، فالماء في الصحراء موضوع للسخرية.

فعندما تكون عند الظهيرة وسط النهار المشمس، في طريقك بين الشعاب وكتبان الرمال، يظهر لك في الأفق القريب متسع من الزرقة، وتقول في نفسك إنها بحيرة ماء، وتقصدها فرحا، وكلما أسرعت في الطريق إلا وابتعدت عليك تلك الزرقة، كلما اقتربت وإلا ابتعدت عنك، هذا هو السراب، إنها سخرية الصحراء التي حولت موضوع الحاجة إلى الماء إلى موضوع سخرية نتيجة فقدانه واشتياقها إليه. أما الضباب في الصحراء فهو في سخرية دائمة وهو يطوف أعلى السماء من مكان إلى آخر، وناذرا ما يتحول إلى مطر، أهل الواحة تعودوا على سخرية الضباب وهم يرونه بين الحين والآخر، ويدخلون في جدل عقيم فيما بينهم، إنها ستمطر، إنها عابرة فهي تسخر منكم كعادتها، وقد يحجب الضباب أشعة الشمس لوقت طويل، وبدل سقوط قطرات المطر، تحل محلها هبوب الرياح حاملة معها غبار الواحة ورمال الصحراء.

... يتبع....

***

بقلم/ د. صابر مولاي أحمد

في المثقف اليوم